الدكتور محمد برادة لــ (الزمان) (1-2) - الكتابة ليست مهنة .. انها مغامرة ملتبسة - زهرة زيراوي
المتتبع لاعمال د. محمد برادة يصعب عليه أن يضعه في خانة معينة ذلك لأن له مجموعة أعمال تراوح بين البحث، والنقد والكتابة الروائية والترجمة، أيضا ففي مجال الترجمات النقدية نقرأ له: (الدرجة الصفر للكتابة) لرولان بارت، وفي ترجمة الإبداع: (الربيع وفصول أخري) لــ (لوكليزيو) هو أيضا يرصد الحركة الأدبية في العالم الغربي عامة وفي الوطن العربي خاصة، وإلي هذا فهو يمتلك مجموعة أعمال أدبية، راوحت بين القصة القصيرة والرواية، وقد اشتغل علي لغات متعددة، راوحت بين الفهم السياسي المتقدم الذي يترك آثاره متسائلة فينا.
وبين عناصر فنية أهمها، التشكيل، ونقل لعبة الضوء والظل إلي عالم الكتابة الروائية والقصصية، متأثرا في ذلك بعلاقته مع الفن البصري التصويري من جهة، وبالطروحات الفنية الأدبية في الجلسات الحميمية مع مجموعة من أصدقائه منهم: الشاعر عبد اللطيف اللعبي والفنان الشاعر محمد القاسمي. إنهم عندما يجتمعون يتم التجاسر بين قلقين قلق الأدب وقلق الفن أو بين شغبين شغب أدبي وشغب فني فيذكرونك بالحركة الشعرية الفنية التي طبعت قرنا بأكمله وأعني الحركة السوريالية.
لغة الأم والذاكرة المكتوبة
ûلقد اشتغلتم علي تعدد أشكال الكتابة، فما الذي قررتم السير في دربه أولا؟
ــ لا أظن أن أحدا يقرر، منذ البدء، أن يصبح شاعرا أو روائيا... فالكتابة مغامرة ملتبسة بطبيعتها وأبعد ما تكون عن المهنة (المضمونة) التي يمكن أن تكون مجالا للاختيار الإداري المحض. عبر دروب متعرجة، ومتشابكة، نصل إلي الاقتناع بضرورة (اللجوء) إلي الكتابة. وغالبا ما نلجأ إلي الكتابة عندما نتبين أننا لا نستطيع أن نغير العالم ــ كما كان يقول جان جونيه û ثم كيف جاء الاستقرار في منعطف الرواية؟
ــ في بداية الستينات، لم تكن توجد بالمغرب شروط تساعد علي الكتابة أو علي احتراف الأدب، خاصة لمن يريد أن يكتب باللغة العربية. كانت النصوص القليلة التي قرأتها، وأنا بالمدرسة الثانوية، هي لكتاب مغاربة درسوا وأقاموا فترة طويلة بمصر، أو لآخرين تأثروا بالنهضة الأدبية والفكرية في المشرق العربي واندمجوا في الحركة الوطنية المقاومة للحماية الفرنسية... كانت النصوص الأدبية المغربية المكتوبة بالعربية، آنذاك، امتدادا واستيحاء للنضال من أجل الاستقلال ومن أجل بلورة ثقافية وطنية تنتمي إلي الثقافة العربية ــ الإسلامية. بعد عودتي من القاهرة سنة 1960، حيث أكملت دراستي الجامعية، كنت أحمل، وزملاء آخرين، قناعة الدعوة إلي تجديد الأدب المغربي المكتوب بالعربية والتبشير بالأدب الملتزم القادر علي تغيير الواقع... كان سياق الفورة الحماسية المنبثقة عن تحقيق الاستقلال يجعل كل الآمال والآفاق مفتوحة أمامنا. لم نكن نكتب كثيرا، بل كنا نحاضر ونتجادل، ونتحاور، ونحتضن الآراء الجريئة في وجودية سارتر، وحداثة مجلتي (الآداب) و(شعر) اللبنانيتين. كان هناك اعتقاد بأن الكلمة سلاح فعال، وضروري لتثوير المجتمع...
الرواية هي المخرج
ûهل يمتلك الأدب أو الفن قدرة أو قوة (ما) علي التغيير؟ ..
ــ بعد عشرين سنة من العمل الثقافي والتدريس في كلية الآداب، وبعد خيبة الأمل التي حملها الاستقلال وسياسة القمع، أدركت أن أوهاما كثيرة تختلط بنظرتي إلي قدرة الأدب علي التغيير... وأدركت في الآن نفسه أن ما كتبت من مقالات وبحوث نقدية لا يقربني من معرفة ذاتي واستيعاب ما عشته لاهثا، متعجلا، منساقا وراء الشعارات والتفاؤل المطلق.
ومن ثم حاصرني شعور قوي بأن كتابة رواية هي المخرج من أزمتي والوسيلة لفهم ما عشته من مغامرات وأحداث وكلما اختزنته الذاكرة. وعندما بدأت في مطلع الثمانينات كتابة الرواية (لعبة النسيان)، كانت قد تبلورت لدي قناعة (اللجوء إلي حرية الكتابة) حتي أتمكن من المقاومة وأنتهك الحدود المصطنعة بين الواقع واللاواقع، بين الملموس والمحلوم به. وسرعان ما تحولت مغامرتي الروائية إلي لعبة تسعفني علي استحضار التفاصيل ورسم الشخوص والفضاءات والاستمتاع بالكلام ومستويات اللغة المتعددة...
مشروعية التعدد داخل اللغة
ûفي حديثكم عن الرواية أثرتم موضوع الذاكرة، ولغة الأم، والتعدد داخل اللغة. كيف ذلك؟
ــ وضفت عناصر من السيرة الذاتية في (لعبة النسيان) ولكنني لجأت أيضا إلي التخييل لتحرير الكتابة من قيود الإفضاء بــ (حقيقة ما) وفي عودتي إلي استيحاء طفولتي بمدينة فاس خلال الأربعينيات، فوجئت بلغة الأم، لغة الكلام والتواصل اليومي في أحياء وأزقة فاس القديمة تنبثق من أعماق الذاكرة واللاشعور، لتفرض نفسها علي الحوار وعلي وصف بعض الفضاءات التي لا يمكن فصلها عن بعض الكلمات. ورغم أنني تعلمت في المدرسة الابتدائية باللغة الفصحي فإن لغة الأم، في الحقيقة، هي تلك اللغة الدارجة التي لها وشائج قوية بالفصحي إلا أنها تمتلك خصوصيتها وتعبيريتها من تلقائية الطفولة، وحضور الأم ونكهة التلفظ وأنثوية الصوت... وهذه التجربة مع لغة الأم، نبهتني إلي مشروعية التعدد داخل اللغة الواحدة وإلي وظيفتها الفنية والدلالية في الكشف عن أبعاد الشخصية الروائية والتقاط ملامحها المميزة. في ظلال الطفولة، وانبثاق لغة الأم المكبوتة، انتقلت مغامرتي الروائية من محاولة استيعاب (الأزمة) والتحولات الاجتماعية والسياسية المتسارعة، إلي النبش في الأعماق ومسرحة الذات والذاكرة. أدركت أن الرواية لا تقبل بأن تظل علي السطح، ولا ترضي بالحدود بل هي كلية أو لا تكون. ذلك أن زمنية الرواية تولد ديمومة مختلفة عن ديمومة الزمن التعاقبي الذي نتوهم العيش داخله. تزول الفوارق بين ماض، وحاضر، ومستقبل، لتخلق الرواية كثافة أخري متماسكة وفاعلة في السر هي التي تقود الشخصية الروائية إلي أن تستعيد وعيها بقوة الزمن وهشاشة الكائن ومن ثم التحايل علي لا معكوسية الزمان، ومحاولة استعادته بأشكال مختلفة. وفي (لعبة النسيان) لم أكن منجذبا إلي الماضي في حد ذاته بقدر ما كنت مشدودا إلي صور الماضي بجمالها الطفولي وفضاءاتها الميثولوجية المتعالية علي الزمن العادي. هكذا، أمام تدهور زمني الحاضر وانسداد آفاقه، كان زمن فاس المقترن بالطفولة يمنحني شعورا بأن كل شيء(متصاعد) وممكن إدراكه. ومن ثم تكتسب فاس صفة الرحم ويغدو حضور الأم في (لعبة النسيان) ذا رمزية أساسية وملتبسة، لأنه يجدد التدفق الحياتية ويهبنا القدرة علي الاندهاش والتصالح مع الذات.
حدائق الذاكرة
û الذاكرة ومتاهات التذكر جزء من اشتغالكم في العمل الروائي، هذه الذاكرة ليست ذاكرة الذات المفرد إنها الذات الملغومة بالآخر، حمالة شتي صنوف المعرفة، أليس كذلك؟
ــ كانت سني متقدمة، نسبيا، عندما كتبت روايتي الأولي وقبلها كتبت مجموعة من القصص. لكنني كنت قد قرأت الكثير من الروايات العربية والعالمية وتابعت الجدالات الأساسية حول الرواية وإمكاناتها التعبيرية. لذلك لم يكن من الممكن أن أكتب بطرقة تقليدية أو أن أشغل لبالي بالنقاش العقيم حول (استيراد) الشكل الروائي إلي الأدب العربي وضرورة البحث عن شكل خاص بثقافتنا... بعيدا عن ذلك، كنت أعتبر الرواية جنسا أدبيا عالميا يغتني بكل التجارب والتحققات النصية ويمدنا بإمكانات للكشف عن الذوات المغيبة ورفض اللغة الأحادية الآمرة، واعتناق النظرة التنسيبية بدلا من الأحكام المطلقة. التخييل، في بعض تجلياته، تشكيك فيما هو قائم، ودعوة إلي إعادة النظر، ومحو للحدود المصطنعة بين الواقع والمحتمل. وأنا أنتمي إلي جيل له ذاكرة مثقلة محاط بتاريخ منسي ومحرمات كثيرة تخصي دفق الحياة. ولعل كل ذلك هو ما جعل روايتي: (لعبة النسيان) و(الضوء الهارب) تأخذان منحي متشظيا رغم الحرص علي تنظيم الفوضي الجميلة المنحدرة من مسارات الذاكرة وقفزاتها. وأعتقد مثل بعض الكتاب والنقاد أننا لا نستطيع أن (نحاكي) شيئا، أو عالما أو شخصيات... ما يهم الروائي هو أن يكتب ذاكرته ومن ثم مواجهة متاهات التذكر والنسيان وزئبقية الزمن ومحدودية اللغة... وأظن أننا بهذا المفهوم، لا نستطيع بعد أن نزعم تخصيص قيمة معينة لنص روائي نكتبه. ما أطمح إليه، وهو أقرب إلي بوطيقا الذاكرة هو اعتبار جميع المواد الخام التي يوظفها الروائي مواد متساوية يصعب التمييز في درجة أهميتها وهي تتظافر جميعها في التعبير عن رؤية، ونسج فضاء وخلق شخوص وكلام... من هنا أهمية تذويت الكتابة الروائية. وأنا لا أقصد بالتذويت الاقتصار علي استيحاء ذات الكاتب بل ألح علي حضورها متفاعلة مع ما يحيط بها ومع ما يشكل ذاكرتها المتشابكة والمتعددة: المعيش، والمحلوم به، والكامن في اللاوعي، والنصوص المقروءة، والمحكيات المسموعة، والصور المشاهدة... وأظن أنني حققت شيئا من ذلك في روايتي (الضوء الهارب) التي أخذت مدا واسعا من التخييل داخل فضاء طنجة المؤسطر، وداخل ذاكرة البطل العيشون الرسام، تتلاقي ذاكرات وفضاءات أخري تمتح من مراكش وفاس وباريس، وتمتح من أسئلة الجنس والحب والإبداع والموت وهوس اللامرئي والمقدس، وتقترض من رواية فرنسية بعض ملامح إحدي شخصياتها لتجسد حالة نفسية عاشتها فاطمة في منفاها الباريسي... أظن أن هذه الإمكانات التي تقدمها الرواية هي التي أتاحت لمجموعة من الكتاب في المغرب وفي العالم العربي أن يبدعوا نصوصا متمردة علي اللغة المتخشبة وعلي التحليلات الرسمية الجوفاء التي تستهدف إبقاء المواطن العربي داخل سجن وصاية أبدية. لأجل ذلك أراهن، مثل الكثيرين، علي أن تكون الرواية مدخلا مضيئا يسعفنا علي قراءة ذاكرة الإنسان العربي وهمومه عبر متعة التخييل وإعادة تشكيل اللغة وتجديد المتخيل الاجتماعي.
النسيان استحضار لما نظنه أنه انقضي
û (امرأة النسيان) ،(لعبة النسيان)، النسيان دلالة واضحة في العملين معا، تري ما الذي تتقصدونه؟
ــ هذا ناتج عن علاقتي بكتابة الذاكرة، أي فيما حاولته من أعمال روائية كنت أحاول أن أكتب ذاكرتي، هي كتابة تتسدعي أيضا التخييل، والتخييل بدوره يقوم علي بياضات وفراغات، هذه البياضات يحدثها النسيان. محاولة القبض علي الزمن كلها عناصر تندرج في كتابة النص الذي أسميه (كتابة الذاكرة)، وهذه الكتابة تختلف عن الكتابة الواقعية في أنها لا تتقصد استنساخ ما عشته، أو ما عانيته أو ما اختزنته ذاكرتي. لكن كتابة الذاكرة هي مجال للتحوير، للإضافة، للبحث، التركيز علي النسيان. يعني أيضا أن له دورا معينا في الحياة، إذ لا يمكن أن نعيش بذاكرة ممتلئة كل الوقت. في واقع الأمر هناك النسيان الذي يسعفنا كي نحيا، كي نتحمل المواجع أو الملل، كل الذي عبرناه يوما، أن نتحمل الشعور بالعجز أمام قوة الزمن وسطوته. إذن النسيان يمكن أن يحمل دلالات متعددة تحيل علي اشتغال الذاكرة، وتحيل علي بعض الدلالات الفلسفية فهناك فلاسفة اهتموا بالنسيان. بهذا المعني النسيان هو وسيلة للتفكير فيما هو غائب، وهو أيضا استحضار بعض ما نظنه انقضي، ولكنه يعود بشكل من الأشكال، وهو ملازم أيضا لما تشتغل عليه الذاكرة. في النص الأول (لعبة النسيان) وفي الثاني (إمرأة النسيان)، النسيان يصبح عنوانا يستدعي من القارئ أن يفكر فيما لم يقله النص أيضا، نحن حاولنا عمليا أن نزعم بأننا نكتب ما قد عشناه بدقة، وقد ننسي الكثير من هذا السؤال ، سؤال النسيان !
أصر علي النسيان لتأكيد دوره في الكتابة، أي لا نكتب الأشياء التي يمكن أن نقول أنها مؤكدة، وثابتة. أو لا يمكن أن نزعم بأنه مؤكد.
هذا النسيان نفسه هو الذي يساعد الكتابة الفنية، إذ يخرجنا من إطار الواقع الضيق، ويسمح للغة أن تتحرر من استعمالاتها المألوفة، إنه يتيح تخيل أشياء ربما لم تقع أو هي قريبة من الوقوع. مسألة النسيان أيضا بالنسبة لي هي نوع من الإقرار بما عشته، وبما لم تتحمله ذاكرتي.
فما عشته يفضي إلي أسئلة ترج، أو تزحزح الذات، يقين الذات، أو انتساب الذات. النسيان في هذه الحال يصبح اللجوء إليه تميمة للذاكرة المهددة بالنسيان، استعادة المتمنع الذي يظل بمثابة جزيرة مضيئة، هذا المتمنع الذي يحرك الكتابة في أعماقنا.
دلالات ترميزية
û جاء في إحدي محطات رواية (امرأة النسيان) ما يلي:
(أقنعت السيد كريم بأن نفترق لأن أشياء كثيرة تحول دون المعيشة المتكاملة اليوم بيننا، خاصة بعد أن أصبحت نشازا وسط عائلته الكبيرة التي كان هو مرتبطا بها حد الذوبان).. أليست العائلة الكبيرة المعنية هنا هي الحزب؟...
ــ لم أتقصد أن أرمز إلي الحزب من خلال الشخصية (فاء، باء) ، لماذا؟... لأن(فاء، باء) لها وجود مادي إلي جانب امتداداتها الترميزية التي يمكن أن تحملها (فاء، باء).
û ألا يمكن أن تكون هذه الشخصية التي أشرتم إليها تنتمي إلي عالمين: عالم الواقع والواقع المحلوم به والذي كنا جميعا نحلم به؟
ــ إنها تعني جيل المغرب الذي عاش انتقالات متسارعة، جيل أتيح له أن يتعرف علي الثقافة الأجنبية الأوربية شخصية (فاء، باء) لم تستطع أن تتكيف مع بيئة تقليدية موروثة عندما رحلت ، أشياء كثيرة تغيرت فيها، ولم تستطع أن تعيش مع بيئة زوجها بإحدي مدن المغرب الجنوبية، لأن هناك شيء يخص الإقليم، يخص الثقافة، يخص تقييم الحياة، صيغة العيش. أشياء كلها تبدلت، وكلها ملتصقة بشخصيتها ومن ثم فهي تصطدم. عوالم مشتبكة. عالم الواقع، وعالم الحلم، والمقصود إبراز بعض الأسباب التي جعلتها تلجأ إلي العزلة والابتعاد عن الحياة العادية، أصبحت تحس أن هناك أشياء أقوي من إرادتها، وهذا جزء من مأساتها.
الروائي يقدم عناصر تقرأ الظواهر والأفكار û في روايتكم امرأة النسيان مرة أخري نقرأ هذا الحوار. إن تجربة حكومة التناوب دخلت في قالب المخزن، أي قالب؟!... وأي مخزن؟ ! ما تعقيبكم علي السارد؟...
ــ هذه فقرة تنطوي علي السخرية وإدراجها علي لسان أحد الشخصيات هو مقصود لإبراز الأفكار، والخطابات، والاتجاهات داخل المجتمع الواحد.
الروائي لا يمكنه أن يكون أحادي النظرة، أو أحادي اللغة أو أحادي الفكر. بمعني أن الرواية تقوم أساسا علي إفساح المجال لنستشعر كقراء تعدد الرؤي ، وتعدد اللغات من خلال الحوار، والمونولوج. التعقيبات في هذه الفقرة يمكن للمحلل أن يلمس تعدد الخطابات القائمة داخل المجتمع، كما يمكنه أن يقرأ ربما وجودها من المعجم السياسي، والثقافي، والاجتماعي، في الفترة التي يحيل عليها النص. لذلك فإن هذا التصور للرواية القائم علي تعدد اللغات، وتعدد الأصوات وتجنب إصدار الأحكام الأخلاقية القاطعة. هذا التصور للرواية يستلزم ألا ننسب للروائي ما يرد علي لسان السارد. لأن الروائي يقدم عناصر تقرأ الظواهر والأفكار دون أن يفرد وجهة نظر معينة.
مجتمعاتنا العربية لا تسمح بما يسمي في اوروبا (المبدع المستقل)
û هل ترون ضرورة اتكاء الأديب علي رافد حزبي في العالم العربي، أم أن ذلك يظل مجرد ضرورة للناشئ. ثم عند اتساع التجربة الأدبية يصبح هو ذاته خارج سلطة الحزب، إذ تصبح هذه السلطة الأدبية أكبر بالنسبة للخريطة الحزبية طبعا؟
ــ أريد أن أميز بين ما يتحتم علينا أن نقوم به باعتبارنا مواطنين، أي أ، نختار الطريق التي نسهم من خلالها في الفعل الاجتماعي السياسي.
بهذا المعني ليس هناك أحد منا معفي من هذا الدور، الكاتب، أو المبدع يأخذ وضعا اعتباريا مختلفا عندما يبدع، من حقه الانتماء السياسي، لكن المشكلة هي أن الشروط الموضوعية في مجتمعاتنا العربية لا تتوقف لتسمح بوجوب ما يسمي في أوروبا بوجود الكاتب أو المبدع المستقل. طبعا ذلك آيل للوضع المعقد المتشابك والمتدهور، والذي لا يتيح للكاتب أن يكون مستقلا بهذا المعني، ما معني أن يكون الكاتب مستقلا؟... أعني به الاستقلال الذاتي، نوع من الحرية التي يكتبها المبدع، أو الفنان خلال إنتاجه، وذلك عندما يصبح بإمكانه أن يبيع نتاجه الأدبي أو الفني مباشرة إلي الجمهور، دون وساطة إلا وساطة الإبداع نفسه، عندئذ يمكن أن يكون مستقلا ملاحظا، أو راصدا ما يحدث خارج كل التنظيمات.
هناك تمييز تفرضه هذه الوضعية، فينبغي أن يكون العمل الابداعي صادرا عن معني أو مفهوم أوسع، ومع ذلك فعلاقة المبدع مع هذه العناصر: السلطة أو الحزب ليست دائما سهلة أو سالكة فالمبدع أساسا علاقته مع نفسه تكون موضوع سؤال، نقد، ومراجعة علاقة ليست سهلة ولا سالكة. هناك منطقان لا يخلوان من تعارض: منطق الرجل السياسي الذي يكون مشدودا إلي ما هو ظرفي، وراهن، ويتطلب حلولا عاجلة. ومنطق المبدع الذي يتباعد عن ما هو راهن باحثا عن رؤية ما. إذا كان من حق المبدع أن يكون خارج سلطة الدولة، فمن حقه أيضا أن يكون ملتزما سياسيا دون أن يؤثر ذلك في فنه. هناك بعض لمبدعين الكبار مثل (أراغون) ظل دائما منتميا للحزب الشيوعي الفرنسي، علي الرغم من أنه يعلم بعض الأخطاء في سياسية الحزب، ذلك أنه كان يري أن وجود هذا التشجيع من شأنه أن يحدث شيئا(ما). وقد ظل شعره بعيدا عن الشأن السياسي هناك أيضا ما يوحي به السؤال: ينبغي أن نتجنب: أن المبدع يمتلك الحقيقة أكثر من السياسي أو المفكر. هذا ليس صحيحا. في أحايين كثيرة نسمع أو نقرأ بعض البيانات تقول إن الإبداع بإمكانه أن يحل هذه المشاكل التي تعاني منها السياسة العربية، هذا غير صحيح لأن تغيير الواقع، وتحقيق التغيير باتجاه أفضل، هي مسألة في غاية التعقيد. إذ لا يمكن أن تقتصر علي كتابات أو نصوص يكتبها الكاتب، فالعلاقة الجدلية بين الإبداع والسياسة، بين الثقافة بصفة عامة والسياسة. يمكن أن تكون متوترة باستمرار ولكنها خصبة، وتتبادل التأثير والتوجيه، فالمبدع يستفيد من تحليل السياسي لمجتمعه، لكن علي السياسي أيضا أن يقترب من الإبداع بصفة عامة، أن يصغي إليه.
AZZAMAN NEWSPAPER --- Issue 1725-1726 --- Date 7-8/2/2004
جريدة (الزمان) --- العدد 1725-1726 --- التاريخ 2004 - 2 - 7/8
AZP09
AYMK
ZHZE
المتتبع لاعمال د. محمد برادة يصعب عليه أن يضعه في خانة معينة ذلك لأن له مجموعة أعمال تراوح بين البحث، والنقد والكتابة الروائية والترجمة، أيضا ففي مجال الترجمات النقدية نقرأ له: (الدرجة الصفر للكتابة) لرولان بارت، وفي ترجمة الإبداع: (الربيع وفصول أخري) لــ (لوكليزيو) هو أيضا يرصد الحركة الأدبية في العالم الغربي عامة وفي الوطن العربي خاصة، وإلي هذا فهو يمتلك مجموعة أعمال أدبية، راوحت بين القصة القصيرة والرواية، وقد اشتغل علي لغات متعددة، راوحت بين الفهم السياسي المتقدم الذي يترك آثاره متسائلة فينا.
وبين عناصر فنية أهمها، التشكيل، ونقل لعبة الضوء والظل إلي عالم الكتابة الروائية والقصصية، متأثرا في ذلك بعلاقته مع الفن البصري التصويري من جهة، وبالطروحات الفنية الأدبية في الجلسات الحميمية مع مجموعة من أصدقائه منهم: الشاعر عبد اللطيف اللعبي والفنان الشاعر محمد القاسمي. إنهم عندما يجتمعون يتم التجاسر بين قلقين قلق الأدب وقلق الفن أو بين شغبين شغب أدبي وشغب فني فيذكرونك بالحركة الشعرية الفنية التي طبعت قرنا بأكمله وأعني الحركة السوريالية.
لغة الأم والذاكرة المكتوبة
ûلقد اشتغلتم علي تعدد أشكال الكتابة، فما الذي قررتم السير في دربه أولا؟
ــ لا أظن أن أحدا يقرر، منذ البدء، أن يصبح شاعرا أو روائيا... فالكتابة مغامرة ملتبسة بطبيعتها وأبعد ما تكون عن المهنة (المضمونة) التي يمكن أن تكون مجالا للاختيار الإداري المحض. عبر دروب متعرجة، ومتشابكة، نصل إلي الاقتناع بضرورة (اللجوء) إلي الكتابة. وغالبا ما نلجأ إلي الكتابة عندما نتبين أننا لا نستطيع أن نغير العالم ــ كما كان يقول جان جونيه û ثم كيف جاء الاستقرار في منعطف الرواية؟
ــ في بداية الستينات، لم تكن توجد بالمغرب شروط تساعد علي الكتابة أو علي احتراف الأدب، خاصة لمن يريد أن يكتب باللغة العربية. كانت النصوص القليلة التي قرأتها، وأنا بالمدرسة الثانوية، هي لكتاب مغاربة درسوا وأقاموا فترة طويلة بمصر، أو لآخرين تأثروا بالنهضة الأدبية والفكرية في المشرق العربي واندمجوا في الحركة الوطنية المقاومة للحماية الفرنسية... كانت النصوص الأدبية المغربية المكتوبة بالعربية، آنذاك، امتدادا واستيحاء للنضال من أجل الاستقلال ومن أجل بلورة ثقافية وطنية تنتمي إلي الثقافة العربية ــ الإسلامية. بعد عودتي من القاهرة سنة 1960، حيث أكملت دراستي الجامعية، كنت أحمل، وزملاء آخرين، قناعة الدعوة إلي تجديد الأدب المغربي المكتوب بالعربية والتبشير بالأدب الملتزم القادر علي تغيير الواقع... كان سياق الفورة الحماسية المنبثقة عن تحقيق الاستقلال يجعل كل الآمال والآفاق مفتوحة أمامنا. لم نكن نكتب كثيرا، بل كنا نحاضر ونتجادل، ونتحاور، ونحتضن الآراء الجريئة في وجودية سارتر، وحداثة مجلتي (الآداب) و(شعر) اللبنانيتين. كان هناك اعتقاد بأن الكلمة سلاح فعال، وضروري لتثوير المجتمع...
الرواية هي المخرج
ûهل يمتلك الأدب أو الفن قدرة أو قوة (ما) علي التغيير؟ ..
ــ بعد عشرين سنة من العمل الثقافي والتدريس في كلية الآداب، وبعد خيبة الأمل التي حملها الاستقلال وسياسة القمع، أدركت أن أوهاما كثيرة تختلط بنظرتي إلي قدرة الأدب علي التغيير... وأدركت في الآن نفسه أن ما كتبت من مقالات وبحوث نقدية لا يقربني من معرفة ذاتي واستيعاب ما عشته لاهثا، متعجلا، منساقا وراء الشعارات والتفاؤل المطلق.
ومن ثم حاصرني شعور قوي بأن كتابة رواية هي المخرج من أزمتي والوسيلة لفهم ما عشته من مغامرات وأحداث وكلما اختزنته الذاكرة. وعندما بدأت في مطلع الثمانينات كتابة الرواية (لعبة النسيان)، كانت قد تبلورت لدي قناعة (اللجوء إلي حرية الكتابة) حتي أتمكن من المقاومة وأنتهك الحدود المصطنعة بين الواقع واللاواقع، بين الملموس والمحلوم به. وسرعان ما تحولت مغامرتي الروائية إلي لعبة تسعفني علي استحضار التفاصيل ورسم الشخوص والفضاءات والاستمتاع بالكلام ومستويات اللغة المتعددة...
مشروعية التعدد داخل اللغة
ûفي حديثكم عن الرواية أثرتم موضوع الذاكرة، ولغة الأم، والتعدد داخل اللغة. كيف ذلك؟
ــ وضفت عناصر من السيرة الذاتية في (لعبة النسيان) ولكنني لجأت أيضا إلي التخييل لتحرير الكتابة من قيود الإفضاء بــ (حقيقة ما) وفي عودتي إلي استيحاء طفولتي بمدينة فاس خلال الأربعينيات، فوجئت بلغة الأم، لغة الكلام والتواصل اليومي في أحياء وأزقة فاس القديمة تنبثق من أعماق الذاكرة واللاشعور، لتفرض نفسها علي الحوار وعلي وصف بعض الفضاءات التي لا يمكن فصلها عن بعض الكلمات. ورغم أنني تعلمت في المدرسة الابتدائية باللغة الفصحي فإن لغة الأم، في الحقيقة، هي تلك اللغة الدارجة التي لها وشائج قوية بالفصحي إلا أنها تمتلك خصوصيتها وتعبيريتها من تلقائية الطفولة، وحضور الأم ونكهة التلفظ وأنثوية الصوت... وهذه التجربة مع لغة الأم، نبهتني إلي مشروعية التعدد داخل اللغة الواحدة وإلي وظيفتها الفنية والدلالية في الكشف عن أبعاد الشخصية الروائية والتقاط ملامحها المميزة. في ظلال الطفولة، وانبثاق لغة الأم المكبوتة، انتقلت مغامرتي الروائية من محاولة استيعاب (الأزمة) والتحولات الاجتماعية والسياسية المتسارعة، إلي النبش في الأعماق ومسرحة الذات والذاكرة. أدركت أن الرواية لا تقبل بأن تظل علي السطح، ولا ترضي بالحدود بل هي كلية أو لا تكون. ذلك أن زمنية الرواية تولد ديمومة مختلفة عن ديمومة الزمن التعاقبي الذي نتوهم العيش داخله. تزول الفوارق بين ماض، وحاضر، ومستقبل، لتخلق الرواية كثافة أخري متماسكة وفاعلة في السر هي التي تقود الشخصية الروائية إلي أن تستعيد وعيها بقوة الزمن وهشاشة الكائن ومن ثم التحايل علي لا معكوسية الزمان، ومحاولة استعادته بأشكال مختلفة. وفي (لعبة النسيان) لم أكن منجذبا إلي الماضي في حد ذاته بقدر ما كنت مشدودا إلي صور الماضي بجمالها الطفولي وفضاءاتها الميثولوجية المتعالية علي الزمن العادي. هكذا، أمام تدهور زمني الحاضر وانسداد آفاقه، كان زمن فاس المقترن بالطفولة يمنحني شعورا بأن كل شيء(متصاعد) وممكن إدراكه. ومن ثم تكتسب فاس صفة الرحم ويغدو حضور الأم في (لعبة النسيان) ذا رمزية أساسية وملتبسة، لأنه يجدد التدفق الحياتية ويهبنا القدرة علي الاندهاش والتصالح مع الذات.
حدائق الذاكرة
û الذاكرة ومتاهات التذكر جزء من اشتغالكم في العمل الروائي، هذه الذاكرة ليست ذاكرة الذات المفرد إنها الذات الملغومة بالآخر، حمالة شتي صنوف المعرفة، أليس كذلك؟
ــ كانت سني متقدمة، نسبيا، عندما كتبت روايتي الأولي وقبلها كتبت مجموعة من القصص. لكنني كنت قد قرأت الكثير من الروايات العربية والعالمية وتابعت الجدالات الأساسية حول الرواية وإمكاناتها التعبيرية. لذلك لم يكن من الممكن أن أكتب بطرقة تقليدية أو أن أشغل لبالي بالنقاش العقيم حول (استيراد) الشكل الروائي إلي الأدب العربي وضرورة البحث عن شكل خاص بثقافتنا... بعيدا عن ذلك، كنت أعتبر الرواية جنسا أدبيا عالميا يغتني بكل التجارب والتحققات النصية ويمدنا بإمكانات للكشف عن الذوات المغيبة ورفض اللغة الأحادية الآمرة، واعتناق النظرة التنسيبية بدلا من الأحكام المطلقة. التخييل، في بعض تجلياته، تشكيك فيما هو قائم، ودعوة إلي إعادة النظر، ومحو للحدود المصطنعة بين الواقع والمحتمل. وأنا أنتمي إلي جيل له ذاكرة مثقلة محاط بتاريخ منسي ومحرمات كثيرة تخصي دفق الحياة. ولعل كل ذلك هو ما جعل روايتي: (لعبة النسيان) و(الضوء الهارب) تأخذان منحي متشظيا رغم الحرص علي تنظيم الفوضي الجميلة المنحدرة من مسارات الذاكرة وقفزاتها. وأعتقد مثل بعض الكتاب والنقاد أننا لا نستطيع أن (نحاكي) شيئا، أو عالما أو شخصيات... ما يهم الروائي هو أن يكتب ذاكرته ومن ثم مواجهة متاهات التذكر والنسيان وزئبقية الزمن ومحدودية اللغة... وأظن أننا بهذا المفهوم، لا نستطيع بعد أن نزعم تخصيص قيمة معينة لنص روائي نكتبه. ما أطمح إليه، وهو أقرب إلي بوطيقا الذاكرة هو اعتبار جميع المواد الخام التي يوظفها الروائي مواد متساوية يصعب التمييز في درجة أهميتها وهي تتظافر جميعها في التعبير عن رؤية، ونسج فضاء وخلق شخوص وكلام... من هنا أهمية تذويت الكتابة الروائية. وأنا لا أقصد بالتذويت الاقتصار علي استيحاء ذات الكاتب بل ألح علي حضورها متفاعلة مع ما يحيط بها ومع ما يشكل ذاكرتها المتشابكة والمتعددة: المعيش، والمحلوم به، والكامن في اللاوعي، والنصوص المقروءة، والمحكيات المسموعة، والصور المشاهدة... وأظن أنني حققت شيئا من ذلك في روايتي (الضوء الهارب) التي أخذت مدا واسعا من التخييل داخل فضاء طنجة المؤسطر، وداخل ذاكرة البطل العيشون الرسام، تتلاقي ذاكرات وفضاءات أخري تمتح من مراكش وفاس وباريس، وتمتح من أسئلة الجنس والحب والإبداع والموت وهوس اللامرئي والمقدس، وتقترض من رواية فرنسية بعض ملامح إحدي شخصياتها لتجسد حالة نفسية عاشتها فاطمة في منفاها الباريسي... أظن أن هذه الإمكانات التي تقدمها الرواية هي التي أتاحت لمجموعة من الكتاب في المغرب وفي العالم العربي أن يبدعوا نصوصا متمردة علي اللغة المتخشبة وعلي التحليلات الرسمية الجوفاء التي تستهدف إبقاء المواطن العربي داخل سجن وصاية أبدية. لأجل ذلك أراهن، مثل الكثيرين، علي أن تكون الرواية مدخلا مضيئا يسعفنا علي قراءة ذاكرة الإنسان العربي وهمومه عبر متعة التخييل وإعادة تشكيل اللغة وتجديد المتخيل الاجتماعي.
النسيان استحضار لما نظنه أنه انقضي
û (امرأة النسيان) ،(لعبة النسيان)، النسيان دلالة واضحة في العملين معا، تري ما الذي تتقصدونه؟
ــ هذا ناتج عن علاقتي بكتابة الذاكرة، أي فيما حاولته من أعمال روائية كنت أحاول أن أكتب ذاكرتي، هي كتابة تتسدعي أيضا التخييل، والتخييل بدوره يقوم علي بياضات وفراغات، هذه البياضات يحدثها النسيان. محاولة القبض علي الزمن كلها عناصر تندرج في كتابة النص الذي أسميه (كتابة الذاكرة)، وهذه الكتابة تختلف عن الكتابة الواقعية في أنها لا تتقصد استنساخ ما عشته، أو ما عانيته أو ما اختزنته ذاكرتي. لكن كتابة الذاكرة هي مجال للتحوير، للإضافة، للبحث، التركيز علي النسيان. يعني أيضا أن له دورا معينا في الحياة، إذ لا يمكن أن نعيش بذاكرة ممتلئة كل الوقت. في واقع الأمر هناك النسيان الذي يسعفنا كي نحيا، كي نتحمل المواجع أو الملل، كل الذي عبرناه يوما، أن نتحمل الشعور بالعجز أمام قوة الزمن وسطوته. إذن النسيان يمكن أن يحمل دلالات متعددة تحيل علي اشتغال الذاكرة، وتحيل علي بعض الدلالات الفلسفية فهناك فلاسفة اهتموا بالنسيان. بهذا المعني النسيان هو وسيلة للتفكير فيما هو غائب، وهو أيضا استحضار بعض ما نظنه انقضي، ولكنه يعود بشكل من الأشكال، وهو ملازم أيضا لما تشتغل عليه الذاكرة. في النص الأول (لعبة النسيان) وفي الثاني (إمرأة النسيان)، النسيان يصبح عنوانا يستدعي من القارئ أن يفكر فيما لم يقله النص أيضا، نحن حاولنا عمليا أن نزعم بأننا نكتب ما قد عشناه بدقة، وقد ننسي الكثير من هذا السؤال ، سؤال النسيان !
أصر علي النسيان لتأكيد دوره في الكتابة، أي لا نكتب الأشياء التي يمكن أن نقول أنها مؤكدة، وثابتة. أو لا يمكن أن نزعم بأنه مؤكد.
هذا النسيان نفسه هو الذي يساعد الكتابة الفنية، إذ يخرجنا من إطار الواقع الضيق، ويسمح للغة أن تتحرر من استعمالاتها المألوفة، إنه يتيح تخيل أشياء ربما لم تقع أو هي قريبة من الوقوع. مسألة النسيان أيضا بالنسبة لي هي نوع من الإقرار بما عشته، وبما لم تتحمله ذاكرتي.
فما عشته يفضي إلي أسئلة ترج، أو تزحزح الذات، يقين الذات، أو انتساب الذات. النسيان في هذه الحال يصبح اللجوء إليه تميمة للذاكرة المهددة بالنسيان، استعادة المتمنع الذي يظل بمثابة جزيرة مضيئة، هذا المتمنع الذي يحرك الكتابة في أعماقنا.
دلالات ترميزية
û جاء في إحدي محطات رواية (امرأة النسيان) ما يلي:
(أقنعت السيد كريم بأن نفترق لأن أشياء كثيرة تحول دون المعيشة المتكاملة اليوم بيننا، خاصة بعد أن أصبحت نشازا وسط عائلته الكبيرة التي كان هو مرتبطا بها حد الذوبان).. أليست العائلة الكبيرة المعنية هنا هي الحزب؟...
ــ لم أتقصد أن أرمز إلي الحزب من خلال الشخصية (فاء، باء) ، لماذا؟... لأن(فاء، باء) لها وجود مادي إلي جانب امتداداتها الترميزية التي يمكن أن تحملها (فاء، باء).
û ألا يمكن أن تكون هذه الشخصية التي أشرتم إليها تنتمي إلي عالمين: عالم الواقع والواقع المحلوم به والذي كنا جميعا نحلم به؟
ــ إنها تعني جيل المغرب الذي عاش انتقالات متسارعة، جيل أتيح له أن يتعرف علي الثقافة الأجنبية الأوربية شخصية (فاء، باء) لم تستطع أن تتكيف مع بيئة تقليدية موروثة عندما رحلت ، أشياء كثيرة تغيرت فيها، ولم تستطع أن تعيش مع بيئة زوجها بإحدي مدن المغرب الجنوبية، لأن هناك شيء يخص الإقليم، يخص الثقافة، يخص تقييم الحياة، صيغة العيش. أشياء كلها تبدلت، وكلها ملتصقة بشخصيتها ومن ثم فهي تصطدم. عوالم مشتبكة. عالم الواقع، وعالم الحلم، والمقصود إبراز بعض الأسباب التي جعلتها تلجأ إلي العزلة والابتعاد عن الحياة العادية، أصبحت تحس أن هناك أشياء أقوي من إرادتها، وهذا جزء من مأساتها.
الروائي يقدم عناصر تقرأ الظواهر والأفكار û في روايتكم امرأة النسيان مرة أخري نقرأ هذا الحوار. إن تجربة حكومة التناوب دخلت في قالب المخزن، أي قالب؟!... وأي مخزن؟ ! ما تعقيبكم علي السارد؟...
ــ هذه فقرة تنطوي علي السخرية وإدراجها علي لسان أحد الشخصيات هو مقصود لإبراز الأفكار، والخطابات، والاتجاهات داخل المجتمع الواحد.
الروائي لا يمكنه أن يكون أحادي النظرة، أو أحادي اللغة أو أحادي الفكر. بمعني أن الرواية تقوم أساسا علي إفساح المجال لنستشعر كقراء تعدد الرؤي ، وتعدد اللغات من خلال الحوار، والمونولوج. التعقيبات في هذه الفقرة يمكن للمحلل أن يلمس تعدد الخطابات القائمة داخل المجتمع، كما يمكنه أن يقرأ ربما وجودها من المعجم السياسي، والثقافي، والاجتماعي، في الفترة التي يحيل عليها النص. لذلك فإن هذا التصور للرواية القائم علي تعدد اللغات، وتعدد الأصوات وتجنب إصدار الأحكام الأخلاقية القاطعة. هذا التصور للرواية يستلزم ألا ننسب للروائي ما يرد علي لسان السارد. لأن الروائي يقدم عناصر تقرأ الظواهر والأفكار دون أن يفرد وجهة نظر معينة.
مجتمعاتنا العربية لا تسمح بما يسمي في اوروبا (المبدع المستقل)
û هل ترون ضرورة اتكاء الأديب علي رافد حزبي في العالم العربي، أم أن ذلك يظل مجرد ضرورة للناشئ. ثم عند اتساع التجربة الأدبية يصبح هو ذاته خارج سلطة الحزب، إذ تصبح هذه السلطة الأدبية أكبر بالنسبة للخريطة الحزبية طبعا؟
ــ أريد أن أميز بين ما يتحتم علينا أن نقوم به باعتبارنا مواطنين، أي أ، نختار الطريق التي نسهم من خلالها في الفعل الاجتماعي السياسي.
بهذا المعني ليس هناك أحد منا معفي من هذا الدور، الكاتب، أو المبدع يأخذ وضعا اعتباريا مختلفا عندما يبدع، من حقه الانتماء السياسي، لكن المشكلة هي أن الشروط الموضوعية في مجتمعاتنا العربية لا تتوقف لتسمح بوجوب ما يسمي في أوروبا بوجود الكاتب أو المبدع المستقل. طبعا ذلك آيل للوضع المعقد المتشابك والمتدهور، والذي لا يتيح للكاتب أن يكون مستقلا بهذا المعني، ما معني أن يكون الكاتب مستقلا؟... أعني به الاستقلال الذاتي، نوع من الحرية التي يكتبها المبدع، أو الفنان خلال إنتاجه، وذلك عندما يصبح بإمكانه أن يبيع نتاجه الأدبي أو الفني مباشرة إلي الجمهور، دون وساطة إلا وساطة الإبداع نفسه، عندئذ يمكن أن يكون مستقلا ملاحظا، أو راصدا ما يحدث خارج كل التنظيمات.
هناك تمييز تفرضه هذه الوضعية، فينبغي أن يكون العمل الابداعي صادرا عن معني أو مفهوم أوسع، ومع ذلك فعلاقة المبدع مع هذه العناصر: السلطة أو الحزب ليست دائما سهلة أو سالكة فالمبدع أساسا علاقته مع نفسه تكون موضوع سؤال، نقد، ومراجعة علاقة ليست سهلة ولا سالكة. هناك منطقان لا يخلوان من تعارض: منطق الرجل السياسي الذي يكون مشدودا إلي ما هو ظرفي، وراهن، ويتطلب حلولا عاجلة. ومنطق المبدع الذي يتباعد عن ما هو راهن باحثا عن رؤية ما. إذا كان من حق المبدع أن يكون خارج سلطة الدولة، فمن حقه أيضا أن يكون ملتزما سياسيا دون أن يؤثر ذلك في فنه. هناك بعض لمبدعين الكبار مثل (أراغون) ظل دائما منتميا للحزب الشيوعي الفرنسي، علي الرغم من أنه يعلم بعض الأخطاء في سياسية الحزب، ذلك أنه كان يري أن وجود هذا التشجيع من شأنه أن يحدث شيئا(ما). وقد ظل شعره بعيدا عن الشأن السياسي هناك أيضا ما يوحي به السؤال: ينبغي أن نتجنب: أن المبدع يمتلك الحقيقة أكثر من السياسي أو المفكر. هذا ليس صحيحا. في أحايين كثيرة نسمع أو نقرأ بعض البيانات تقول إن الإبداع بإمكانه أن يحل هذه المشاكل التي تعاني منها السياسة العربية، هذا غير صحيح لأن تغيير الواقع، وتحقيق التغيير باتجاه أفضل، هي مسألة في غاية التعقيد. إذ لا يمكن أن تقتصر علي كتابات أو نصوص يكتبها الكاتب، فالعلاقة الجدلية بين الإبداع والسياسة، بين الثقافة بصفة عامة والسياسة. يمكن أن تكون متوترة باستمرار ولكنها خصبة، وتتبادل التأثير والتوجيه، فالمبدع يستفيد من تحليل السياسي لمجتمعه، لكن علي السياسي أيضا أن يقترب من الإبداع بصفة عامة، أن يصغي إليه.
AZZAMAN NEWSPAPER --- Issue 1725-1726 --- Date 7-8/2/2004
جريدة (الزمان) --- العدد 1725-1726 --- التاريخ 2004 - 2 - 7/8
AZP09
AYMK
ZHZE