"الخبز الحافي" لا يزال طازجاً
محمد شكري: هذا الكتاب يقول لي يومياً ها أنا حيّ
على الرغم من لائحة اعماله الادبية العديدة، يبقى محمد شكري بامتياز صاحب "الخبز الحافي"، الكتاب الذي تجوّل في لغات العالم حاملا اسماً عربياً على نص اجنبي، في تعبير احد الشعراء، لكنه ظل ممنوعا عشرين عاما في المغرب ثم منع منذ سنوات قليلة في مصر.
الاطفال في الشوارع لا ينادونني محمد شكري. بل الخبز الحافي".
في الحيثيات التي احاطت ب"الخبز الحافي" ان هذه الرواية اوقعت محمد شكري في اسرها اضافة الى التعبيرات التي نتجت منها. ففي احاديثه الى الصحافيين غالبا ما كان شكري يروي ان صاحب "دار الآداب" الروائي سهيل ادريس رفض نشر "الخبز الحافي" لأنه كتاب مبتذل وينبغي اعادة كتابته، وكشف انه طلب منه ان يفلسفه وان يفلسف حياته فيه. لكن ادريس عاد في مؤتمر الرواية الذي عقد في المغرب سنة ،1983 ليطلب منه نشر "الخبز الحافي" شرط اجراء بعض الروتوشات عليه لكن شكري رفض بالقول: لن توجد روتوشات ابدا. فإما ان تنشره كما هو واما لا.
اعترف شكري لأحد الصحافيين في احد الايام بالقول: "انا اريد قتل الشهرة التي منحتني اياها رواية "الخبز الحافي". لقد كتبت "زمن الاخطاء" ولم تمت، كتبت "وجوه" ولم تمت. ان "الخبز الحافي" لا تريد ان تموت، وهي تسحقني، اشعر انني مثل اولئك الكتّاب الذين سحقتهم شهرة كتاب واحد شأن سرفانتس مع "دون كيخوت"، او فلوبير مع "مدام بوفاري"، او د.ه. لورنس مع "عشيق الليدي تشارلي". ف"الخبز الحافي" لا تزال حية رافضة ان تموت، ابنة عاهرة. الاطفال في الشوارع لا ينادونني شكري، بل ينادونني "الخبز الحافي". هذا الكتاب يقول لي يوميا ها انا، هنا، حي".
محقٌّ شكري في قوله، وهذا ينطبق على الكثير من الادباء.
لا نستطيع فصل رواية "الخبز الحافي" عن صاحبها. في معنى آخر، لم يكتب محمد شكري الا عن حياته وتداعيتها. حياته الصاخبة بالمشقات والمتاعب.
ولد عام 1935 في قرية الناضور بني شنكر على اطراف تطوان حيث عاش امياً حتى العشرين من عمره. لم يذق طعم الطفولة ابدا، لكنه وبحكم حياة الشارع اتقن الكلام باللغتين الاسبانية والفرنسية بسبب كوزموبوليتية طنجة ومزيج سكانها. يقول شكري انه عاش أمياً من عام 1935 حتى عام ،1955 ويذكر قصة طريفة عن علاقته بالامية عندما كان يبيع السجائر المهربة في ميناء طنجة وكان لديه حساب توفير في البنك: "كنت اوقّع بابهامي، أضعها في المحبرة لكي اوقّع الاستمارة التي فيها المبلغ المسحوب وخلال ذلك قام احد الذين كانوا يجلسون معي في المقهى بتعليمي كيف اوقّع باسمي او كيف اكتب امضائي، وذهبت ذات صباح الى البنك واعلنت تعلمي فاعطوني بطاقة جديدة ومزقوا القديمة التي فيها نموذج الابهام وكتبت توقيعي لاستخدامه في كل عملية سحب، وبعد ايام رجعت اريد ان اسحب مبلغا من المال. ملأ الموظف الاستمارة وقال لي: وقّع، فوقّعت. وكنت قد نسيت طريقة الامضاء التي علّمني اياها زميلي في المقهى، فرفض المحاسب اعطائي اي مبلغ لعدم موافقة التوقيع القديم مع توقيعي الجديد، الا ان مدير البنك قرر اعطائي المبلغ لأنه كان يعرفني، ومن حسن حظي ان هذا المدير كان واحدا من زبائني الذين ابيعهم السجائر المهربة".
البدايات
كانت تلك الحكاية دافعا قويا ليتعلم شكري الكتابة والقراءة، فهو نشر اول قصة كتبها عام 1966 بعنوان "العنف على الشاطىء" في جريدة "العمل" المغربية، ثم نشر عام 1967 قصة ثانية في "الآداب" اللبنانية مثلت بداية انطلاقته وشهرته. كان عمره 31 سنة آنذاك وكان الكتّاب الذين يبحثون عن الشهرة ينشرون في هذه المجلة فيحصل احدهم على اعتراف ادبي، وكذلك كانت مجلة "الاديب" مثلا.
من حسن حظ شكري ان كتاباته في الستينات كانت تنطوي على نوع من الجرأة سمّاها الآخرون "الوقاحة". فهو كان يوظف الجنس في قصصه وإن كان بعيدا عن الاستعراض او هادفا الى الاثارة او التهييج. بعض العقول لاحظت انه نشر كتابات اباحية "مخلة بالآداب". ومع هذا جرى تشجيع هذه الكتابات. ففي سنة 1972 كتب شكري مقالا طويلا تحت عنوان "مفهوم التجربة الادبية" وارسله الى جريدة "العلم". وقد تلقى ردا من رئيس التحرير يقول فيه ان المقال طويل ومكتوب بطريقة انشائية. ومن الافضل اعادة كتابته. وقد ارسل شكري المقال نفسه الى مجلة "الآداب" كما هو، فنشرته بعد الافتتاحية في سبع عشرة صفحة. كان هذا هو السبب الذي دفع شكري الى النشر في بلاد مشرقية.
كتب روايته "الخبز الحافي" في اواخر الستينات، فكانت الصاروخ الادبي العابر للغات. اما "الشطار" الذي يعتبر الجزء الثاني المكمّل لهذه السيرة الذاتية الروائية، فصدر في المغرب في اواخر الثمانينات، ولم تقابله الرقابة بالرفض ربما لأنه لم يُكتب ب"الصلف والفجاجة"، اللذين اتصفت بهما "الخبز الحافي". وربما لأن شكري قد صار اسما معروفا في الدوائر الادبية العربية والعالمية وتجاوز الصعلكة والهامش الى متن المتن. اتبع الروايتين ب"وجوه" الذي يمكن اعتباره الجزء الثالث من السيرة. واذا كانت "الخبز الحافي" لا مثيل لها في الادب العربي، ففي وسعنا القول ان الكتابين اللذين تبعاها محض استطرادات وهوامش مكمّلة، وليس فيهما من جديد.
حتى في كتبه الاخرى عن جان جينيه وتينيسي وليامز وبول بولز بدا كأنه يغرق في ذكرياته وماضيه وزمن "طنجته" لكننا نجده في الوقت نفسه متصالحاً مع ما يكتبه، فيقدمه بلغة عارية، حادة وجميلة تخلو من الكناية والتورية والفلسفة التي طلبها ادريس منه. بالطبع، لا ننسى قصص شكري ورواياته الاخرى من مثل "غواية الشحرور الابيض" و"الخيمة" و"مجنون الورد".
قتل الأب
الصورة الاولى التي نستشفها من ادب شكري صورة الاب الشرير والقاسي والمر. قال محمد شكري في "خبزه الحافي": "ان موت ابي في ذهني تم في اللحظة التي مات فيها اخي. اننا لا نقتل آباءنا بقدر ما يقتلون انفسهم فينا. ان الاب هو الذي يعجل او يؤجل، يقصر او يطيل موته في ابنائه. الموت درجات متفاوتة". يفجر شكري المسكوت عنه فيكتبه بتجرد. يأخذنا بخطى بطيئة الى شبابه، ثم يعود الى صباه. يحكي عن كرهه لأبيه، هذا الاب الشاذ في العنف الذي كان يمارسه ضد "شحرور طنجة" وضد بقية ابنائه وزوجته. يتذكر "الشحرور" باستمرار عودة ابيه، ثملا، الى الكوخ الذي كانت الاسرة تعيش فيه بعد ان يكون قد فقد في القمار كل نقوده التي كسبها. فقد كان مدمنا، لا يعرف كيف يتوقف عن اللعب، وحين يكون ثملا فانه يخسر كل شيء.
يعود الاب ثملا يوزع الشتائم صائحا في كل اتجاه، فتستيقظ الزوجة صامتة خوفا من الضرب الذي كانت آثاره تظهر على وجهها وجسدها. نجد الاب يكره ابنه ليس فقط في مرحلة صباه، بل وحتى بعدما استقل عنه واصبح رجلا متعلما يعمل مدرّسا في مدرسة حكومية. فكان الاب لا يفتأ يلاحقه بالسخرية امام اصدقائه وزملائه إن التقاه بينهم في حانة او حتى في الطريق، مرددا امامهم انه ابن عاجز جنسيا.
يحكي شكري انه لم يعرف بالضبط عدد اخوته او عدد الاطفال الذين ولدتهم امه فقد كان منهم من يموت قبل الولادة او بعدها مباشرة، وعندما غادر كوخ الاسرة، لم يكن يعرف عدد اخوته. حتى هذه الام التي توفيت عام 1984 هي نفسها لم تكن تعرف عدد الاطفال الذين وضعتهم. كان عبد القادر مريضا، وكان يبكي طوال الليل، ولم يكن الاب الثمل العائد يتحمل هذا البكاء، فانقض مرة على الطفل وكسر رقبته بيديه. يتذكر شكري ايضا كيف ان اباه في واحدة من نوبات غضبه وعنفه ضرب زوجته بوعاء فيه عسل يغلي وكانت تعد الحلوى لبيعها.
قلما قرأنا في الرواية العربية كتاباً عن فضح الاب. ربما نستثني نجيب محفوظ في ثلاثيته التي يصور فيها فحولة الاب وعجرفته.
النساء
اما صورة المرأة في رواية شكري فتبدو اكثر تعقيدا. انها موضوع محيّر، فهي اما للتواطؤ ضد الرجل، واما هي غريزية. يقول شكري: "اذا كنت لا اكتب الا عن المرأة المدنسة الخاسئة فلأنني اكلت خبزي الحافي بين العاهرات". ربما لم تتح لشكري الا فرص نادرة لمعرفة المرأة التي يصفها المجتمع بأنها محترمة. كان شكري يلتقي ببعض المعلمات فيوجه اليهن الحديث في الشارع لكنهن لا ينظرن اليه. من خلال الاحاديث لمس التقارب بين المرأة الخاسئة والمرأة المحترمة، من ناحية ان الاثنتين لا تتكلمان معه في الشارع. على ان شكري يعترف في اكثر من مناسبة ان المرأة المحترمة لا تثير خياله بعكس المرأة التي تمارس الدعارة. ونلاحظ في "خبزه الحافي" ان الراوي هو ذلك "التائه" والهارب من جحيم ابيه، الذي يعيش تحت الكابوس الدائم. يطارد النساء طوال حياته بدءا من "التمارين" على اناث الحيوانات، مرورا بكل من اسية وفاطمة وسلافة ونساء المباغي العديدات. فهو الهارب من الريف ومن الاب والعائلة الى مدينة طنجة الكوزموبوليتية، حيث الاجانب والدعارة والحشيشة. في هذه المناخات عاش الراوي في العالم السفلي مقيما حياته على العلاقات مع مومسات، الى درجة ان الراوي يصير مومساً.
وفي احاديثه الى الصحف يقول انه كان في السابق يمارس الجنس مرتين او ثلاث مرات في اليوم مع نساء مختلفات، وكان يصل الامر به الى الاستمناء قبل النوم. حدث في التاسعة عشرة من عمره انه ضاجع تسع نساء في يوم واحد. قال ان مومسات الامس كنّ اشد حناناً، وكانت لديهن ثقافة. كن يعرفن حكي القصص، مثل فاطي، فاطمة المغربية الخالصة المنتمية الى مدينة العرائش، والتي لا تزال على قيد الحياة في الدانمارك. كان لمومسات الامس وقت، اما مومسات اليوم فيشتغلن بالساعة، ويخادعن.
طنجة
الصورة الثالثة في كتابات شكري هي طنجة، المدينة التي عاش في ثناياها، ونهل روايته من حياته فيها. كتب ايضا عن الادباء الذين امضوا سنوات فيها. لقد ارتبط اسمه بها مثلما ارتبط اسم اورهان باموق باسطنبول، واسم بول اوستر بأمكنة الظل في نيويورك واسم سلمان رشدي بفانتازيا بومباي واسم نجيب محفوظ بحكايات القاهرة ومقاهيها. لكن شكري يعترف في حديث الى احدى الصحف ان طنجة لم تجد كاتبها القادر على نقل سحرها بالطريقة التي يتم فيهانقل اساطير المدن الاخرى، شأن ماركيز الذي رفع اساطير امكنته الى مستوى المذهب الادبي الذي سمّي "الواقعية السحرية". بل اخترع مدينة وهمية اسمها ماكوندو التي لم تلبث ان تموت في الرواية.
اخترع ماركيز ماكوندو، لكن هل اخترع شكري نجمة ام هي اخترعته؟ لا ينظر شكري الى نفسه في اعتباره كاتب طنجة او الكاتب الذي ادخل المدينة في الوعي الانساني والادبي رغم ان هذه المدينة تحضر في كتاباته كأنها الركن الاساسي، سواء في سيرته او كتبه عن بولز وجينيه. نجد شكري يطلق الصرخة الادبية بعد عيشه في طنجة، محتجاً على انواع الكتابات التي وضعت عن هذه المدينة، فيعتبر ان ما كتب لا يعدو كونه ارهاصات حاولت لمّ شتات الذاكرة سواء ما كتبه هو نفسه او ما كتبه عنها زوارها والذين اقاموا فيها من الاجانب مثل بوروز في روايته "الضوء الهارب" الخ. يقول شكري: "ان اكثر ما يكتب عن طنجة اليوم، كتب هي بمثابة بطاقات بريدية. فقد يمكث كاتب في طنجة اسابيع ويكتب عنها كتبا متبجحا بما يعرفه عن خفاياها وعن جغرافيتها السرية وامجادها العابرة والمشاهير الذين عاشوا فيها او مروا بها. انهم لكثيرون الذين يكتبون عن المغرب بطاقات بريدية فيهرّجون الكتابة ويسطحونها، بحثا عن شهرة مجانية، فقاعية".
يحتفظ شكري ببعض الملامح من رحلة وصوله الى هذه المدينة. حين بلغها، لم يجدها ذلك الفردوس الموعود لكنها لم تكن جحيما. جاء شكري الى المدينة قهرا وليس اختيارا، ومن سوء حظه ان اباه كان هاربا من جيش فرانكو، وقبض عليه وسجن سنتين امضاهما بين طنجة واصيلة، واضطرت امه الى بيع الخضر والفواكه في اسواق المدينة، بينما كان شكري يقتات من مزابل الاوروبيين (النصارى) الغنية لا مزابل المغاربة المسلمين التي كانت فقيرة، على قوله. وفي ميناء طنجة باع شكري السكائر والحشيشة للاجانب، وكان يقود الجنود الاميركيين الى المواخير الاوروبية التي اشتهر بينها ماخور مدام سيمون.
يقول شكري ان لطنجة اسطورة مغرية. نداؤها جلاّب مثل ساحرة عوليس. فكان الادباء يأتون اما بدافع شخصي واما بأدبي. فبول بولز، مثلا، جاء ليدرس المجتمع المغربي. وهو ربما رأى ان المجتمعات العربية استهلكها كثيرا الكتّاب الفرنسيون والاميركيون لكنه اعتبر ان المغرب لا يزال بكرا وفي حاجة الى اكتشاف. وقد جاء بمثابة انتروبولوجي.
الكتابة
يبقى اخيرا ان نشير الى اسلوب شكري في الكتابة السهلة الممتنعة والمباشرة التي تحكي عما يختزنه العالم السفلي. في معنى آخر، يجمع شكري بين اللغة "الرديئة" (او السوقية) و"الفضيحة". وهذان الموضوعان ينحوان في اتجاه جمالية فائقة. فشكري يعتبر ان الكاتب حتى لو كتب عن النفايات فلا بد للكتابة من ان تجري بأسلوب سام وجمالي وممتع. بمعنى ان الكتابة حتى لو حملت كل ما هو قبيح في حياتنا، فلا بد ان يتم التعبير عن هذا القبيح بصورة جميلة ومبهجة.
فرح جبر - ملحق النهار الثقافي - الاحد 23 تشرين الثاني 2003
محمد شكري: هذا الكتاب يقول لي يومياً ها أنا حيّ
على الرغم من لائحة اعماله الادبية العديدة، يبقى محمد شكري بامتياز صاحب "الخبز الحافي"، الكتاب الذي تجوّل في لغات العالم حاملا اسماً عربياً على نص اجنبي، في تعبير احد الشعراء، لكنه ظل ممنوعا عشرين عاما في المغرب ثم منع منذ سنوات قليلة في مصر.
الاطفال في الشوارع لا ينادونني محمد شكري. بل الخبز الحافي".
في الحيثيات التي احاطت ب"الخبز الحافي" ان هذه الرواية اوقعت محمد شكري في اسرها اضافة الى التعبيرات التي نتجت منها. ففي احاديثه الى الصحافيين غالبا ما كان شكري يروي ان صاحب "دار الآداب" الروائي سهيل ادريس رفض نشر "الخبز الحافي" لأنه كتاب مبتذل وينبغي اعادة كتابته، وكشف انه طلب منه ان يفلسفه وان يفلسف حياته فيه. لكن ادريس عاد في مؤتمر الرواية الذي عقد في المغرب سنة ،1983 ليطلب منه نشر "الخبز الحافي" شرط اجراء بعض الروتوشات عليه لكن شكري رفض بالقول: لن توجد روتوشات ابدا. فإما ان تنشره كما هو واما لا.
اعترف شكري لأحد الصحافيين في احد الايام بالقول: "انا اريد قتل الشهرة التي منحتني اياها رواية "الخبز الحافي". لقد كتبت "زمن الاخطاء" ولم تمت، كتبت "وجوه" ولم تمت. ان "الخبز الحافي" لا تريد ان تموت، وهي تسحقني، اشعر انني مثل اولئك الكتّاب الذين سحقتهم شهرة كتاب واحد شأن سرفانتس مع "دون كيخوت"، او فلوبير مع "مدام بوفاري"، او د.ه. لورنس مع "عشيق الليدي تشارلي". ف"الخبز الحافي" لا تزال حية رافضة ان تموت، ابنة عاهرة. الاطفال في الشوارع لا ينادونني شكري، بل ينادونني "الخبز الحافي". هذا الكتاب يقول لي يوميا ها انا، هنا، حي".
محقٌّ شكري في قوله، وهذا ينطبق على الكثير من الادباء.
لا نستطيع فصل رواية "الخبز الحافي" عن صاحبها. في معنى آخر، لم يكتب محمد شكري الا عن حياته وتداعيتها. حياته الصاخبة بالمشقات والمتاعب.
ولد عام 1935 في قرية الناضور بني شنكر على اطراف تطوان حيث عاش امياً حتى العشرين من عمره. لم يذق طعم الطفولة ابدا، لكنه وبحكم حياة الشارع اتقن الكلام باللغتين الاسبانية والفرنسية بسبب كوزموبوليتية طنجة ومزيج سكانها. يقول شكري انه عاش أمياً من عام 1935 حتى عام ،1955 ويذكر قصة طريفة عن علاقته بالامية عندما كان يبيع السجائر المهربة في ميناء طنجة وكان لديه حساب توفير في البنك: "كنت اوقّع بابهامي، أضعها في المحبرة لكي اوقّع الاستمارة التي فيها المبلغ المسحوب وخلال ذلك قام احد الذين كانوا يجلسون معي في المقهى بتعليمي كيف اوقّع باسمي او كيف اكتب امضائي، وذهبت ذات صباح الى البنك واعلنت تعلمي فاعطوني بطاقة جديدة ومزقوا القديمة التي فيها نموذج الابهام وكتبت توقيعي لاستخدامه في كل عملية سحب، وبعد ايام رجعت اريد ان اسحب مبلغا من المال. ملأ الموظف الاستمارة وقال لي: وقّع، فوقّعت. وكنت قد نسيت طريقة الامضاء التي علّمني اياها زميلي في المقهى، فرفض المحاسب اعطائي اي مبلغ لعدم موافقة التوقيع القديم مع توقيعي الجديد، الا ان مدير البنك قرر اعطائي المبلغ لأنه كان يعرفني، ومن حسن حظي ان هذا المدير كان واحدا من زبائني الذين ابيعهم السجائر المهربة".
البدايات
كانت تلك الحكاية دافعا قويا ليتعلم شكري الكتابة والقراءة، فهو نشر اول قصة كتبها عام 1966 بعنوان "العنف على الشاطىء" في جريدة "العمل" المغربية، ثم نشر عام 1967 قصة ثانية في "الآداب" اللبنانية مثلت بداية انطلاقته وشهرته. كان عمره 31 سنة آنذاك وكان الكتّاب الذين يبحثون عن الشهرة ينشرون في هذه المجلة فيحصل احدهم على اعتراف ادبي، وكذلك كانت مجلة "الاديب" مثلا.
من حسن حظ شكري ان كتاباته في الستينات كانت تنطوي على نوع من الجرأة سمّاها الآخرون "الوقاحة". فهو كان يوظف الجنس في قصصه وإن كان بعيدا عن الاستعراض او هادفا الى الاثارة او التهييج. بعض العقول لاحظت انه نشر كتابات اباحية "مخلة بالآداب". ومع هذا جرى تشجيع هذه الكتابات. ففي سنة 1972 كتب شكري مقالا طويلا تحت عنوان "مفهوم التجربة الادبية" وارسله الى جريدة "العلم". وقد تلقى ردا من رئيس التحرير يقول فيه ان المقال طويل ومكتوب بطريقة انشائية. ومن الافضل اعادة كتابته. وقد ارسل شكري المقال نفسه الى مجلة "الآداب" كما هو، فنشرته بعد الافتتاحية في سبع عشرة صفحة. كان هذا هو السبب الذي دفع شكري الى النشر في بلاد مشرقية.
كتب روايته "الخبز الحافي" في اواخر الستينات، فكانت الصاروخ الادبي العابر للغات. اما "الشطار" الذي يعتبر الجزء الثاني المكمّل لهذه السيرة الذاتية الروائية، فصدر في المغرب في اواخر الثمانينات، ولم تقابله الرقابة بالرفض ربما لأنه لم يُكتب ب"الصلف والفجاجة"، اللذين اتصفت بهما "الخبز الحافي". وربما لأن شكري قد صار اسما معروفا في الدوائر الادبية العربية والعالمية وتجاوز الصعلكة والهامش الى متن المتن. اتبع الروايتين ب"وجوه" الذي يمكن اعتباره الجزء الثالث من السيرة. واذا كانت "الخبز الحافي" لا مثيل لها في الادب العربي، ففي وسعنا القول ان الكتابين اللذين تبعاها محض استطرادات وهوامش مكمّلة، وليس فيهما من جديد.
حتى في كتبه الاخرى عن جان جينيه وتينيسي وليامز وبول بولز بدا كأنه يغرق في ذكرياته وماضيه وزمن "طنجته" لكننا نجده في الوقت نفسه متصالحاً مع ما يكتبه، فيقدمه بلغة عارية، حادة وجميلة تخلو من الكناية والتورية والفلسفة التي طلبها ادريس منه. بالطبع، لا ننسى قصص شكري ورواياته الاخرى من مثل "غواية الشحرور الابيض" و"الخيمة" و"مجنون الورد".
قتل الأب
الصورة الاولى التي نستشفها من ادب شكري صورة الاب الشرير والقاسي والمر. قال محمد شكري في "خبزه الحافي": "ان موت ابي في ذهني تم في اللحظة التي مات فيها اخي. اننا لا نقتل آباءنا بقدر ما يقتلون انفسهم فينا. ان الاب هو الذي يعجل او يؤجل، يقصر او يطيل موته في ابنائه. الموت درجات متفاوتة". يفجر شكري المسكوت عنه فيكتبه بتجرد. يأخذنا بخطى بطيئة الى شبابه، ثم يعود الى صباه. يحكي عن كرهه لأبيه، هذا الاب الشاذ في العنف الذي كان يمارسه ضد "شحرور طنجة" وضد بقية ابنائه وزوجته. يتذكر "الشحرور" باستمرار عودة ابيه، ثملا، الى الكوخ الذي كانت الاسرة تعيش فيه بعد ان يكون قد فقد في القمار كل نقوده التي كسبها. فقد كان مدمنا، لا يعرف كيف يتوقف عن اللعب، وحين يكون ثملا فانه يخسر كل شيء.
يعود الاب ثملا يوزع الشتائم صائحا في كل اتجاه، فتستيقظ الزوجة صامتة خوفا من الضرب الذي كانت آثاره تظهر على وجهها وجسدها. نجد الاب يكره ابنه ليس فقط في مرحلة صباه، بل وحتى بعدما استقل عنه واصبح رجلا متعلما يعمل مدرّسا في مدرسة حكومية. فكان الاب لا يفتأ يلاحقه بالسخرية امام اصدقائه وزملائه إن التقاه بينهم في حانة او حتى في الطريق، مرددا امامهم انه ابن عاجز جنسيا.
يحكي شكري انه لم يعرف بالضبط عدد اخوته او عدد الاطفال الذين ولدتهم امه فقد كان منهم من يموت قبل الولادة او بعدها مباشرة، وعندما غادر كوخ الاسرة، لم يكن يعرف عدد اخوته. حتى هذه الام التي توفيت عام 1984 هي نفسها لم تكن تعرف عدد الاطفال الذين وضعتهم. كان عبد القادر مريضا، وكان يبكي طوال الليل، ولم يكن الاب الثمل العائد يتحمل هذا البكاء، فانقض مرة على الطفل وكسر رقبته بيديه. يتذكر شكري ايضا كيف ان اباه في واحدة من نوبات غضبه وعنفه ضرب زوجته بوعاء فيه عسل يغلي وكانت تعد الحلوى لبيعها.
قلما قرأنا في الرواية العربية كتاباً عن فضح الاب. ربما نستثني نجيب محفوظ في ثلاثيته التي يصور فيها فحولة الاب وعجرفته.
النساء
اما صورة المرأة في رواية شكري فتبدو اكثر تعقيدا. انها موضوع محيّر، فهي اما للتواطؤ ضد الرجل، واما هي غريزية. يقول شكري: "اذا كنت لا اكتب الا عن المرأة المدنسة الخاسئة فلأنني اكلت خبزي الحافي بين العاهرات". ربما لم تتح لشكري الا فرص نادرة لمعرفة المرأة التي يصفها المجتمع بأنها محترمة. كان شكري يلتقي ببعض المعلمات فيوجه اليهن الحديث في الشارع لكنهن لا ينظرن اليه. من خلال الاحاديث لمس التقارب بين المرأة الخاسئة والمرأة المحترمة، من ناحية ان الاثنتين لا تتكلمان معه في الشارع. على ان شكري يعترف في اكثر من مناسبة ان المرأة المحترمة لا تثير خياله بعكس المرأة التي تمارس الدعارة. ونلاحظ في "خبزه الحافي" ان الراوي هو ذلك "التائه" والهارب من جحيم ابيه، الذي يعيش تحت الكابوس الدائم. يطارد النساء طوال حياته بدءا من "التمارين" على اناث الحيوانات، مرورا بكل من اسية وفاطمة وسلافة ونساء المباغي العديدات. فهو الهارب من الريف ومن الاب والعائلة الى مدينة طنجة الكوزموبوليتية، حيث الاجانب والدعارة والحشيشة. في هذه المناخات عاش الراوي في العالم السفلي مقيما حياته على العلاقات مع مومسات، الى درجة ان الراوي يصير مومساً.
وفي احاديثه الى الصحف يقول انه كان في السابق يمارس الجنس مرتين او ثلاث مرات في اليوم مع نساء مختلفات، وكان يصل الامر به الى الاستمناء قبل النوم. حدث في التاسعة عشرة من عمره انه ضاجع تسع نساء في يوم واحد. قال ان مومسات الامس كنّ اشد حناناً، وكانت لديهن ثقافة. كن يعرفن حكي القصص، مثل فاطي، فاطمة المغربية الخالصة المنتمية الى مدينة العرائش، والتي لا تزال على قيد الحياة في الدانمارك. كان لمومسات الامس وقت، اما مومسات اليوم فيشتغلن بالساعة، ويخادعن.
طنجة
الصورة الثالثة في كتابات شكري هي طنجة، المدينة التي عاش في ثناياها، ونهل روايته من حياته فيها. كتب ايضا عن الادباء الذين امضوا سنوات فيها. لقد ارتبط اسمه بها مثلما ارتبط اسم اورهان باموق باسطنبول، واسم بول اوستر بأمكنة الظل في نيويورك واسم سلمان رشدي بفانتازيا بومباي واسم نجيب محفوظ بحكايات القاهرة ومقاهيها. لكن شكري يعترف في حديث الى احدى الصحف ان طنجة لم تجد كاتبها القادر على نقل سحرها بالطريقة التي يتم فيهانقل اساطير المدن الاخرى، شأن ماركيز الذي رفع اساطير امكنته الى مستوى المذهب الادبي الذي سمّي "الواقعية السحرية". بل اخترع مدينة وهمية اسمها ماكوندو التي لم تلبث ان تموت في الرواية.
اخترع ماركيز ماكوندو، لكن هل اخترع شكري نجمة ام هي اخترعته؟ لا ينظر شكري الى نفسه في اعتباره كاتب طنجة او الكاتب الذي ادخل المدينة في الوعي الانساني والادبي رغم ان هذه المدينة تحضر في كتاباته كأنها الركن الاساسي، سواء في سيرته او كتبه عن بولز وجينيه. نجد شكري يطلق الصرخة الادبية بعد عيشه في طنجة، محتجاً على انواع الكتابات التي وضعت عن هذه المدينة، فيعتبر ان ما كتب لا يعدو كونه ارهاصات حاولت لمّ شتات الذاكرة سواء ما كتبه هو نفسه او ما كتبه عنها زوارها والذين اقاموا فيها من الاجانب مثل بوروز في روايته "الضوء الهارب" الخ. يقول شكري: "ان اكثر ما يكتب عن طنجة اليوم، كتب هي بمثابة بطاقات بريدية. فقد يمكث كاتب في طنجة اسابيع ويكتب عنها كتبا متبجحا بما يعرفه عن خفاياها وعن جغرافيتها السرية وامجادها العابرة والمشاهير الذين عاشوا فيها او مروا بها. انهم لكثيرون الذين يكتبون عن المغرب بطاقات بريدية فيهرّجون الكتابة ويسطحونها، بحثا عن شهرة مجانية، فقاعية".
يحتفظ شكري ببعض الملامح من رحلة وصوله الى هذه المدينة. حين بلغها، لم يجدها ذلك الفردوس الموعود لكنها لم تكن جحيما. جاء شكري الى المدينة قهرا وليس اختيارا، ومن سوء حظه ان اباه كان هاربا من جيش فرانكو، وقبض عليه وسجن سنتين امضاهما بين طنجة واصيلة، واضطرت امه الى بيع الخضر والفواكه في اسواق المدينة، بينما كان شكري يقتات من مزابل الاوروبيين (النصارى) الغنية لا مزابل المغاربة المسلمين التي كانت فقيرة، على قوله. وفي ميناء طنجة باع شكري السكائر والحشيشة للاجانب، وكان يقود الجنود الاميركيين الى المواخير الاوروبية التي اشتهر بينها ماخور مدام سيمون.
يقول شكري ان لطنجة اسطورة مغرية. نداؤها جلاّب مثل ساحرة عوليس. فكان الادباء يأتون اما بدافع شخصي واما بأدبي. فبول بولز، مثلا، جاء ليدرس المجتمع المغربي. وهو ربما رأى ان المجتمعات العربية استهلكها كثيرا الكتّاب الفرنسيون والاميركيون لكنه اعتبر ان المغرب لا يزال بكرا وفي حاجة الى اكتشاف. وقد جاء بمثابة انتروبولوجي.
الكتابة
يبقى اخيرا ان نشير الى اسلوب شكري في الكتابة السهلة الممتنعة والمباشرة التي تحكي عما يختزنه العالم السفلي. في معنى آخر، يجمع شكري بين اللغة "الرديئة" (او السوقية) و"الفضيحة". وهذان الموضوعان ينحوان في اتجاه جمالية فائقة. فشكري يعتبر ان الكاتب حتى لو كتب عن النفايات فلا بد للكتابة من ان تجري بأسلوب سام وجمالي وممتع. بمعنى ان الكتابة حتى لو حملت كل ما هو قبيح في حياتنا، فلا بد ان يتم التعبير عن هذا القبيح بصورة جميلة ومبهجة.
فرح جبر - ملحق النهار الثقافي - الاحد 23 تشرين الثاني 2003