"أمثولةُ" أو "درسُ الظلمات الروائي" خاصّةُ الروائي الأسباني المعروف خافيير مارياس Javier Marias أدرك أخيراً ذروته، أو نقطة الذروة فيه في الجزء الثالث والأخير من ثلاثيته الروائية، الواقعة تحت عنوان إجمالي هو "وجهك غداً"، وصدرت هذه الرواية جديدة التكملة حديثاً تحت عنوان "سمّ وظل ووداع".
المشهدان الأولان من هذه الثلاثية تتوجب العودة اليهما؛ ليتاح لنا متابعة المشهد الثالث والأخير. في الفصل الأول، أو الرواية الأولى، يقدم لنا الروائي مارياس شخصيته الأساسية أو بطله، ويدعى خاييم وهو شاب أسباني انتهى به الأمر في لندن، حيث جرى ضمه الى جماعة سريّة كمفسّر للوجوه أو السيماء والنوايا، أو الضمائر.
وفي الرواية الثانية أو لنقل المشهد الثاني من الثلاثية إبان سهرة حفل اجتماعي، حيث يكلَّف خاييم بمراقبة وحراسة زوجة أحد الإيطاليين، يشهد عرضاً بدائياً رهيبَ العنف داخل مراحيض أحد ملاهي الرقص. حيث يقوم مرؤوس خاييم المدعو السيد توبرا بتعذيب الملحق الثقافي الأسباني الكريه سمج الطباع، المدعو دولا غارزا.
في المشهد الثالث أي الرواية الثالثة، الأخيرة، يكتشف خاييم الطبيعة الحقيقية لعمله إبان سهرة في منزل السيد توربا مرؤسه الذي راح يريه أفلام فيديو صادمة. انشداهه وانجذابه للسيطرة وقوة الخوف، سوف يسممان ضميره وحياته الشخصية. أوَ هل سيصبح في نهاية الأمر بدوره مسيطراً متلاعباً بالآخرين هو نفسه؟
في روايته الجديدة "سمّ وظل ووداع" ينجز خافيير مارياس، ويكمل تأليفاً روائياً خارقاً، يجعل فيه الأدب مجالا وساحة لاختبار الشر. صعود القوة والعنف جماعياً (وهذه المقاربة هي لديه بتأثير الحرب الأسبانية الأهلية) وفردياً تصل الى ذروتها. مأساة حديثة معاصرة في ثلاثة مشاهد على خلفية حبكة تجسسية (حيث نلتقي رجال وكالة الاستخبارات البريطانية وإيان فليمينغ- كاتب سلسلة "جايمس بوند"). إن ثلاثية مارياس "وجهك غدًا" هي بمثابة تأمل في التاريخ وذاكرته الانتقائية.
ليس بفعل الصدفة أن نتاج الروائي خافيير مارياس يهجس ببقعة الدم الشهيرة، تلك التي في مسرحية شكسبير الشهيرة "ماكبث" التي تتبدل معانيها، من ندبة أو علامة جريمة الى عَرَض من أعراض مرض نريده سرّيا خفياً، وعلى وجه الخصوص أثراً لا يمكن محوه داخل النص الروائي.
إذ أن الذي في قلب أو صميم روايته الجديدة بالذات، وهو ما يدعوه الراوي فيها "الرعب السردي"، أو هذا الهول من كل البشريين، المشاهير منهم والمغفلين، سوف يبدّل ويحّول بموته الخاص أو باعترافات أناس آخرين.
موحداً ما بين ملكة اجادته فنّه الروائي وحس السخرية، وبراعته في تكثيف الزمن والمكان وخطاباته واسترسالاته الداخلية بشكل استطرادات يهب الراوي الدور الاساسي للكلام، فهو حسبه ما يتيح المجال للكذب والخيانة اكان عميلاً مزدوجاً او ثلاثياً.
الى جانب هذه الرواية صدر كذلك لخافيير مارياس كتاب لا يقلّ تهكميّة عن نثره الروائي، إنما هذا الكتاب الآخر أكثر مهارة، ويضم مجموعة من المقالات أو بالأحرى الدراسات. ويحمل عنوان "أدب وشبح". وإن كان الروائي مارياس لا يتردد عن نقد معاصريه بجرأة، فهو في آن معاً يبرع في اللعب بعتاده الثقافي، وينجح في التقريظ المحير ومديح كل من جايمس جويس وكذلك جورج شتاينر. فهو يعمل على إعداد تيمات وموضوعات مشروعه الروائي الطموح، أكان ذلك يتعلق بالمفاعيل أو النتائج الشاذة لبناء النص، أو تلك المتعلقة بالنسيان؟
هذا في المقابل يتقدم كصدى للأسئلة أو التحقيق المحوري الجوّاني لأدبه، أو لنتاجه الإبداعي. تلك الأسئلة التي تهجس الأباطيل الأدبية وأيضا الزهو والخيلاء الأدبية. وبكلام آخر سؤال "القيمة" الإنسانية./ السياسي