حوار مع الكاتب محمد شكري
جريدة البايس الاسبانية 5 أكتوبر 2002
Entrevista al escritor Mohamed Chukri
EL PAIS SÁBADO, 5 OCTUBRE 2002
طنجة :
في مقابلة معه بطنجة، يتكلم الكاتب اللعين في الأدب العربي المعاصر وصاحب الرواية المُعَرِّية الخبز الحافي عن الحياة الحميمة لهذه المدينة المغربية عبر سلسلة من القصص البيوغرافية التي ميَّزتْ الجزء الأخير من ثلاثية مذكراته: وجوه، غراميات، لعنات. إنه الكاتب الذي أحلَّ الأصوليون هدر دمه. أدبُه يرشح قوَّةً وعاطفة.
محمد شكري كاتب مهدَّدٌ بالقتل من طرف الأصوليين، وهو الكاتب اللعين في الأدب العربي المعاصر، إنه البوكوفسكي المغربي؛ أمِّيٌّ تَعَلَّمَ الكتابة كي يهدي العالم لَكْمَةَ الخبز الحافي ، هو الآن ينشر في إسبانيا: وجوه، غراميات، لعنات، الجزء الأخير من ثلاثيته البيوغرافية.
طلب محمد شكري من النادل أن يأتِيَه بقنينة أفضل خمرة لديه . فَهِمَ النادلُ جيدا طلب محمد شكري، بالرغم من أن الأخير قد تكلم معه بالإسبانية، فجاء بميداييون M‚dallonشراب يصنع بمنطقة أولاد الطالب في بنسليمان، جرَّب شكري الشرابَ ووافق عليها. أهي الكأس الأولي في اليوم؟ ـ سألَ الصحافيُ بابتسامة تنِمُّ عن أن السؤالَ غبيٌّ وأن الجواب سلبي ـ لا ردَّ شكري هذه فودكا قال مبرزا كأسا ذات سائل أبيضَ كان يشربها قبل مجيء الصحافي. هنا، شربت ثلاث كؤوس، وفي منزلي شربت كأس ويسكي شيفاس كي أفطر ، ثم مال شكري بنظرته إلي صحن شرائح موز سابحة في سائل آخر وأضاف: وهذا يحتوي علي بعض من بَايْلَيْزَ Baileys .
أنت دائما كنت تشرب كثيرا، أليس كذلك؟
آه! براميل! خمارات برمتها، أقبية بكاملها، حانات كبيرة، حانات صغيرة، مطاعم، مواخير، فنادق... لقد شربت دون توقف.
وما زلت تشرب باستمرار ?.
طبعا! فجسدي مازال يحتمله حتي اللحظة. وأنا في سني ليس لدي ما أخسره، ليس هنالك ما أخسر، أتسمع.
ولد شكري في قرية من سلسلة جبال الريف سنة 1935، إبان مرحلة الحماية الإسباني في شمال المغرب، ويعيش منذ صباه في طنجة. إنه في 67 من عمره، شخص ذو شعر داكن أشيب جبين واسع تعبره ثَلَمٌ، وشارب تتدلي شعره أسفل أنف صقري وعينان صغيرتان ملؤهما الذكاء والحزن وهو أيضا، أسطورة الأدب المغربي والعربي. كتب سنة 1972 الخبز الحافي القصة الحانقة والمؤلمة لطفولته ومراهقته في الريف البئيس المحتل آنذاك من طرف الإسبان، وفي طنجة الكوسموبوليتانية في مرحلتها الدَّوْلِيَّةِ، فكانت رسما لمكان وزمان بعيون ماسحي الأحذية وبائعي التقسيط للسجائر المهربة والكيف، ومرتكبي بعض الاختلاسات الصغيرة والمُتَدَاعَرِينَ مع الأجانب. وبعدها، سيقص شكري في زمن الأخطاء جهده الخارق كي يتحول إلي كاتب انطلاقا من وضع شاطر أمِّيٍّ الذي كان عليه. والآن، هو يقص جملةً من الحكايات الطَّنْجِيَّةِ، إنها قصص بيوغرافية مرة أخري، تُصيب الصميمَ منك في وجوه، غراميات، لعنات.
تنطلق وجوه بشخصيات حانة غرناطة؛ مع مومسات تسمين للا شفيقة، مليكة، فَاطِي... لقد ضاجعتَ المومسات كثيرا؟ أحقيقة هذا؟
كثيرا! كنت في السابق أمارس الجنس مرتين أو ثلاث مرات في اليوم مع نساء مختلفات، وكان يصل الأمر بي إلي الاستمناء قبل النوم. حدث وأنا عمري 19 سنة أن ضاجعت تسع نساء في يوم واحد. وبالطبع، أنا الآن أكتفي بمرة أو مرتين في الشهر، إذ لست في حالة تسمح بذلك. لكن مومسات الأمس كُنَّ أَحَنَّ، وكانت لديهن ثقافة، أقصد ثقافة شفهية،. كن يعرفن حكي القصص، مثل فَاطِي، فاطمة المغربية الخالصة المنتمية إلي مدينة العرائش، إنها لا تزال علي قيد الحياة في الدنمارك. كان لمومسات الأمس وقت، أما مومسات اليوم فيشغلن الساعة، ويخادعن: مرَّتْ خمس عشرة دقيقة .
أهنالك حب فاشل في حياتك؟
كانت لي بعض الغراميات الصغيرة. لكنني تزوجت بقراءاتي وكتاباتي وأصدقائي، وإن تزوجت بامرأة يوما ما، فلا أريد أن يكون لي ولد. أخشي أن أتصرف مثلما تصرف والدي معي، دائما عشت حاملا هذه العقدة.
كان أب شكري جنديا فَرَّ من الجيش الإسباني، وكان يقيد ابنه عند شجرة، ويضربه بحزام جلدي، وفي يوم أخذته نوبة غضب، فخنق أخا لشكري حتي تسبب في قتله. لقد قص شكري في الخبز الحافي هذه الحكاية وما كان يكنه في نفسه من حقد علي أبيه، وفعل الشيء ذاته بصيغة مباشرة ومُعرِّيَّةٍ مع من يتحدث عنهم في وجوه من مومسات غرناطة علال؛ الابن الذي تآمر علي أبيه المسن كي يمنعه من الزواج مجددا وألا يتقاسم إرثه مع أحد غيره. هكذا، حولته مواضيعه وأسلوبه إلي كاتب لعين، إلي كاتب يُقارَنُ بالأمريكي بوكوفسكي وبالكوبي بيدرو خوان غوتييرث، لكن وضع اللعين هو أصْخَب في العالم العربي والإسلامي، في 1990 منعت أعماله في مصر بضغط من الفقهاء.
حينما صدرت الترجمة الإسبانية لـ الخبز الحافي كتب خوان غويتيسولو عنك بأنك قد كتبت أول سيرة بيوغرافية عربية عفيفة، وصريحة، وحقيقية. أنادرا ما يُعْلن المرءُ علي الملإ جوانب ضعفه ورذائله؟ من أين تأتيك هذه الشجاعة؟
إن البيوغرافيات العربية التي تحكي بأصابع اليد الواحد تُكْتَبُ باعترافات أقل. أنا لكي أكتب ثلاثيتي البيوغرافية اعتمدت أساسا نماذج غربية؛ مثل اعترافات القديس أغوستين San Agustn، جون جاك روسو Jean ـ Jac Rousseau، سومريست موغان Somereset Maughan، كولن ولسون Colin Wilson، كلمات سارتر Sartre، خوان غويتيسولو Juan Gytisolo في الأراضي المُسَيَّجَة... هذه الكتابة منحتني الشجاعة كي أعبر عن ذاتي، ونحن نعلم أن الأدب العربي القديم كان أكثر حرية من أدبنا الحالي، كثيرةٌ هي المحرَّمات الآن، لكن في العصر الجاهلي وفي بداية الإسلام كان هنالك أدب مثل ألف ليلة وليلة والروض العاطر، كان يُتَوَافَرُ علي حرية تعبير كبيرة. لقد حدث انحطاط في الثقافة العربية، خصوصا عندما خرج العرب من إسبانيا منذ خمسة قرون، لقد ضاعت حرية التعبير، وهيمن التشدد والتعصب الديني. لقد اغتال الدين كل شيء، أتفهم؟ إن المحرَّمات تقتل الحرية والإبداع.
يريد التعصب أن يقتل أيضا سلمان رشدي ونجيب محفوظ وأنت.
نعم، إننا ننزل إلي الحضيض، ليس الأمر مرتبطا هنا بحائط برلين، أو بسور الصين. وهذا لا يمنعني من مواصلة كتابة ما أكتب. إ ن هاجمني أحمق في الشارع وطعنني فالأمر لن يهمني، لأن الإنسان يمضي وتبقي الفكرة. أنا لا أبحث عن الشهادة، لكن إن أصابني سوء الحظ، فليصبني. لست أخشي مواصلةَ الكتابة بنفس الحماس الذي كتبت به الكتاب الأول. أنا أيضا أحمل معي سكينا من الحجم الكبير، ولا أرغب في الذهاب وحيدا إلي المقبرة، ليذهب معي واحد أو اثنان، أتسمع. يمكنني أن أستصحب معي واحدا أو اثنين من هؤلاء الحمقي. لن أذهب وحيدا.
حينما حكيت لبعض الأصدقاء من برجوازية طنجة أني جئت إلي المدينة كي أستجوبك قالوا لي: آه، لا، إن شكري يقدم صورة جد سيئة عن المدينة! .
طبعا، فَبَلَدِِيُّوكَ يكونون أحيانا... طيب، سأطرح عليك سؤالا: هؤلاء الناس الذين يقولون لك إن شكري يقدم صورة سيئة عن المدينة من يكون هؤلاء الناس؟ إنهم معتوهون، معتوهون اجتماعيون، يَدْعُونَكَ إلي طَجِينٍ، أو كسكس أو حريرة في بيتهم، وهم لم يقرؤوا ولو نصف دستة كتب. أنا قرأت أربعة آلاف كتاب، ويمكنك أن تثق بي أكثر منهم. أنتَ يدعونك إلي طجين، وإلي أن تقضي وقتا ممتعا، وإلي تدخين لفائف كيف أو حشيش: لكن، اسمع، إنهم لن يقنعوك بهذا، أليس كذلك؟ ما تقنعك أكثر هي الكلمة، ففي البدء كانت الكلمة، هؤلاء متغوِّطُون، لم ينجزوا أي شيء ذا بال في حياتهم.
حسنا، لنتكلم عن طنجة. كانت هنالك ثلاث مدن كوسموبوليتانية في البحر الأبيض المتوسط، هي: الإسكندرية، بيروت وطنجة. لقد قضت النزعة الوطنية والأصولية الإسلامية علي الإسكندرية، لكن بيروت وطنجة لم يُقْضَ بعدُ عليهما، بالرغم من أنهما قد تُرِكتا واهنتين. طنجة لا تزال مختلفة، حرة ووغدة، كيف تعرِّفُ طنجة؟
طنجة مدينة أسطورية، والأسطورة لا تُفَسَّرُ، إنْ فسرتها تتخلي عن أن تكون أسطورة، إن لها أسرارها.
كان الحوار يدور بطنجة في فندق ريتز Ritz الذي لا علاقة له بترف فنادق ريتز بباريس ومدريد، هناك المكتب الإداري لشكري، وهناك يستقبل صباحا. وبينما كان الكاتب والصحافي يتغذيان ويتحدثان، كانت قنينة الخمر تنقص حجما بوتيرة سريعة. كان الحديث باللغة الإسبانية التي يتكلمها شكري بطلاقة وظرافة شأن الكثير من الطنجيين.
يُلاحَظُ عليك إعجابك بإسبانيا.
صحيح، صحيح! لقد كان لدي هنا أصدقاء إسبانيون كبار، ابتداء من الغجر والأندلسيين الذين كانوا شبيهين بنا، مهمشين، وأيضا كان لدي أصدقاء معلمون وأساتذة وكُتَّاب إسبان كانوا أصدقاء لي ولا يزالون كذلك. لكن، لم يكن لي أبدا صديق فرنسي، للصراحة، ومع الإنكليز والأمريكيين كان الأمر شيئا آخر، فقد كان لكي أنكحهم ولينكحوني؛ ليس فيزيائيا، وإنما فكريا.
أتقرأ للكُتَّاب الإسبان؟
طبعا! وأيضا تَرْجَمْتُ لشعراء إسبان؛ ترجمت قصائد لِـ: بِيكِرْ، الأخَوَيْنِ مَاشَادُو، فِثِنْطِ أَلِكْسَنْدْرِي، وغَابْرِييِلْ سِيلَايَا، لوركا، لَابُرْدِيطَ، سُوسَازَنْ مارْشْ... ترجمتهم إلي العربية.
من هو الكاتب الإسباني المفضل لديك؟
لدي انطباع الآن بأن أمريكا اللاتينية قد تجاوزت إسبانيا بأسماء مثل خوان رولفو، وكورطثار، وغارسيا ماركيز، وفارغاس جوسا... هذه الأسماء ليس لديها نظير في السرد الإسباني المعاصر. لكني أقْدُرُ خوان غويتيسولو و طُورِّنْطِ بايِّسْطِرْ، ومن الكلاسيين أنا ممن يقدر سرفانتِسْ.
أتقرأ هؤلاء بالإسبانية؟
إن لم تكن الإسبانية! فبأية لغة كنت سأقرأهم؟
الآن، وقنينة الخمر فارغة، والمعدة ساكنة، يتوجه شكري والصحافي إلي بيت الكاتب، إنه المنزل الأعلي والأخير في عمارة قريبة من فندق ريتز. صعد شكري الطوابق الخمسة راجلا ـ إذ لا مصعد بالعمارة ـ ودون أن يتخلي عن التدخين. البيت قلعة من ملابس، وأوان، وأجهزة إلكترونية قديمة، وكتب، وأوراق، وصور لشكري رفقة كُتَّابٍ مثل: بول بولز، ألبرتو مورافيا، جون جونيت، غويتيسولو، الطاهر بن جلون... وهناك لوحة جد مرئية للزعيم الريفي عبد الكريم. يطلع شكري مدعوِّيهِ علي كتبه الشخصية، بما في ذلك 48 ترجمة إلي اللغات الأخري للخبز الحافي، ومجموعة الدمي المعوَّقة ـ هكذا يسميها ـ ؛ دمي تنقصها أعين، أذرع، أرجل أو أرؤس.
لقد أحضر الصحافي لشكري قنينتي شراب من مالقة، واحدة من طرف المستعرب برناب لوبي غارسيا الذي عاش سنوات طويلة في طنجة، وأخري هدية شخصية. فتح شكري واحدة، قدم كأسين كريمتين، ووضع في الفيديو شريطا. إنه برنامج Apostrophes، البرنامج التلفزي لبرنارد بيفو الذي مرَّت عليه عشرون سنة، وكان لا يزال بالأبيض والأسود، وكان فيه شكري ضيفا ـ كانت المرة الأولي التي أخرج فيها من المغرب لكي أتكلم عن كراهية الأب بمناسبة صدور الترجمة الفرنسية للخبز الحافي بفرنسا، الآن ، يقول أتفهم جيدا سلوك أبي. لقد كان عنفه صادرا عن العنف والبؤس الذي كان يعيشه المغرب تحت وطأة الاستعمار. حينما هربت من المنزل كنت أعيش في المقابر كي لا أُغْتَصبَ من الكبار .
لكن الأشياء لم تتحسن كثيرا بعد أكثر من أربعين سنة من الاستقلال، فالمدن المغربية مكتظة بالأطفال والمراهقين والشباب الذين يعيشون في الأكواخ، يقدمون أنفسهم مرشدين سياحيين، يبيعون الحشيش، يمارسون الدعارة أو يحترفون القوادة، يحلمون بالسفر إلي أوروبا علي متن القارب.
اسمع، الآن ربما كان الأمر أسوأ. وأنا ما أزال أتكلم عن هذه الأشياء. أنا أُعْتَبَرُ في العالم العربي كاتبا بورنوغرافيا، لأنني أتكلم عن الجنس، لكنني أسعي إلي أن أقدم بعض القيم في كتبي.
أية قيمٍ؟
أنا ملتزم اجتماعيا: وأميل إلي الدفاع عن الطبقات المهمشة والمنسية والمسحوقة. أنا لست إسبارتاكوس، لكني أعتقد أن الناس جميعا لديهم كرامة يلزم احترامها، بالرغم من عدم حصولهم علي فرص في الحياة.
لقد عاش في طنجة الأربعينيات والخمسينيات والستينيات أشخاص أمثال: بول وجان بولز، وترومان كابُّوتِ، وسيسيل بيتون، وتينيسي ويليامس، وغور فيدال، وويليامز بوروز، وألن غينسبرغ، وجون جونيت، وألبرتو مورافيا، وجاك كيرواك... كانت مرحلة طنجة البوهيمية، طنجة jet ـ set، وطنجة beatnik، وطنجة globe ـ trotters. ومع ذلك فقد قلت عن هؤلاء الأجانب؛ إنهم يأتون إلي طنجة مثل الذي يجيء ليري قردا يقفز من شجرة إلي أخري ، أتظن أن ذلك يصدق علي صديقيك جونيت وبولز؟
لا أظنه يصدق علي جونيت الذي كان أصْلِيًّا، لكن عن بولز يكون الأمر صحيحا، لقد جاء إلي هنا باحثا عن مغرب ساذج. كان الأمر سيروقه لو استمرَّ المغرب علي ما كان عليه في الثلاثينيات، فقد كان يحب مغربه الخاص. تقريبا كلُّ أجانب المرحلة الذهبية لطنجة قدموا إلي هنا باحثين عن الغرابة والملذات؛ كي يدخنوا الكيف والحشيش، ويكون لديهم فتيات أو فتيان... أنا لست ضد هؤلاء الناس، لكنهم لم يمنحوني الفرصة لأعيش مثلهم. كان الأسوأ أن تعيش في الجانب الآخر، كان الأسوأ هو أن نشعر بالاحتقار نحن الذين نعيش في الجانب الآخر، أنا أيضا، كان سيروقني لو أني عشت تلك الحياة الناعمة، لكن حياة أولئك الأشخاص كان ثمنُها سحقَ الآخرين. وسحق الآخرين عملٌ بدائيٌّ، أتفهمني؟
لكن بولز قدَّمَ لك الهدية، فقد ترجم الخبز الحافي إلي الإنكليزية.
يا لها من هدية كبيرة!
كيف اشتغلت مع بولز علي الترجمة الإنكليزية للخبز الحافي ؟
كنت أترجمها ذهنيا من العربية إلي الإسبانية التي أتحدثها، وأمليها عليه. وبولز الذي كان يتكلم إسبانية راقية أفضل من إسبانيتي كان يكتبها بإسبانيته، وبعد ذلك كان يترجمها إلي الإنكليزية. انتبه! مغربي وأمريكي يتفاهمان في طنجة باللغة الإسبانية.
أتكتبُ شيئا جديدا الآن؟
لا، أنا أصحح أشياء قديمة، اسمعْ، سأعترف لك بشيء: أنا أريد قتلَ الشهرةَ التي مَنَحَتْنِي إياها الخبز الحافي . لقد كتبت زمن الأخطاء ولم تمتْ، كتبت وجوه ولم تمتْ. إن الخبز الحافي لا تريد أن تموت، وهي تسحقني. أشعر أنني مثل أولئك الكتاب الذين سحقتهم شهرة كتاب واحد شأن سرفانتيس مع دون كِيخُوتِ، أو فلوبير مع مدام بوفاري، أو د.ه. لورنس مع عشيق الليدي شاترلي . فالخبز الحافي لا تزال حية رافضة أن تموت، ابنة عاهرة. الأطفال في الشوارع لا ينادونني شكري، بل ينادونني الخبز الحافي . هذا الكتاب يقول لي يوميا ها أنا، هنا، حي .
وإذن، فستستمرُّ محاولا قتلَ الخبز الحافي .
طبعا! أنا عنيد، أنا من برج التيس، إذ تعلم أن الذئب سيأكلك لا محالة، لكنك تنطحه. وجوه ليس توديعا للكتابة، فالكاتب لا يُوَدِّعُ الكتابةَ حتي يُودِعُوهُ قبرَهُ.
وأنت، أليست لك نية في الذهاب قريبا إلي القبر.
لا، لا، لا!
أجري الحوار: خافيير فلانزويلا
ترجمة: مزوار الإدريسي
جريدة الباييس الملحق الثقافي بَابِلْيَا السبت 5 أكتوبر 2002
جريدة البايس الاسبانية 5 أكتوبر 2002
Entrevista al escritor Mohamed Chukri
EL PAIS SÁBADO, 5 OCTUBRE 2002
طنجة :
في مقابلة معه بطنجة، يتكلم الكاتب اللعين في الأدب العربي المعاصر وصاحب الرواية المُعَرِّية الخبز الحافي عن الحياة الحميمة لهذه المدينة المغربية عبر سلسلة من القصص البيوغرافية التي ميَّزتْ الجزء الأخير من ثلاثية مذكراته: وجوه، غراميات، لعنات. إنه الكاتب الذي أحلَّ الأصوليون هدر دمه. أدبُه يرشح قوَّةً وعاطفة.
محمد شكري كاتب مهدَّدٌ بالقتل من طرف الأصوليين، وهو الكاتب اللعين في الأدب العربي المعاصر، إنه البوكوفسكي المغربي؛ أمِّيٌّ تَعَلَّمَ الكتابة كي يهدي العالم لَكْمَةَ الخبز الحافي ، هو الآن ينشر في إسبانيا: وجوه، غراميات، لعنات، الجزء الأخير من ثلاثيته البيوغرافية.
طلب محمد شكري من النادل أن يأتِيَه بقنينة أفضل خمرة لديه . فَهِمَ النادلُ جيدا طلب محمد شكري، بالرغم من أن الأخير قد تكلم معه بالإسبانية، فجاء بميداييون M‚dallonشراب يصنع بمنطقة أولاد الطالب في بنسليمان، جرَّب شكري الشرابَ ووافق عليها. أهي الكأس الأولي في اليوم؟ ـ سألَ الصحافيُ بابتسامة تنِمُّ عن أن السؤالَ غبيٌّ وأن الجواب سلبي ـ لا ردَّ شكري هذه فودكا قال مبرزا كأسا ذات سائل أبيضَ كان يشربها قبل مجيء الصحافي. هنا، شربت ثلاث كؤوس، وفي منزلي شربت كأس ويسكي شيفاس كي أفطر ، ثم مال شكري بنظرته إلي صحن شرائح موز سابحة في سائل آخر وأضاف: وهذا يحتوي علي بعض من بَايْلَيْزَ Baileys .
أنت دائما كنت تشرب كثيرا، أليس كذلك؟
آه! براميل! خمارات برمتها، أقبية بكاملها، حانات كبيرة، حانات صغيرة، مطاعم، مواخير، فنادق... لقد شربت دون توقف.
وما زلت تشرب باستمرار ?.
طبعا! فجسدي مازال يحتمله حتي اللحظة. وأنا في سني ليس لدي ما أخسره، ليس هنالك ما أخسر، أتسمع.
ولد شكري في قرية من سلسلة جبال الريف سنة 1935، إبان مرحلة الحماية الإسباني في شمال المغرب، ويعيش منذ صباه في طنجة. إنه في 67 من عمره، شخص ذو شعر داكن أشيب جبين واسع تعبره ثَلَمٌ، وشارب تتدلي شعره أسفل أنف صقري وعينان صغيرتان ملؤهما الذكاء والحزن وهو أيضا، أسطورة الأدب المغربي والعربي. كتب سنة 1972 الخبز الحافي القصة الحانقة والمؤلمة لطفولته ومراهقته في الريف البئيس المحتل آنذاك من طرف الإسبان، وفي طنجة الكوسموبوليتانية في مرحلتها الدَّوْلِيَّةِ، فكانت رسما لمكان وزمان بعيون ماسحي الأحذية وبائعي التقسيط للسجائر المهربة والكيف، ومرتكبي بعض الاختلاسات الصغيرة والمُتَدَاعَرِينَ مع الأجانب. وبعدها، سيقص شكري في زمن الأخطاء جهده الخارق كي يتحول إلي كاتب انطلاقا من وضع شاطر أمِّيٍّ الذي كان عليه. والآن، هو يقص جملةً من الحكايات الطَّنْجِيَّةِ، إنها قصص بيوغرافية مرة أخري، تُصيب الصميمَ منك في وجوه، غراميات، لعنات.
تنطلق وجوه بشخصيات حانة غرناطة؛ مع مومسات تسمين للا شفيقة، مليكة، فَاطِي... لقد ضاجعتَ المومسات كثيرا؟ أحقيقة هذا؟
كثيرا! كنت في السابق أمارس الجنس مرتين أو ثلاث مرات في اليوم مع نساء مختلفات، وكان يصل الأمر بي إلي الاستمناء قبل النوم. حدث وأنا عمري 19 سنة أن ضاجعت تسع نساء في يوم واحد. وبالطبع، أنا الآن أكتفي بمرة أو مرتين في الشهر، إذ لست في حالة تسمح بذلك. لكن مومسات الأمس كُنَّ أَحَنَّ، وكانت لديهن ثقافة، أقصد ثقافة شفهية،. كن يعرفن حكي القصص، مثل فَاطِي، فاطمة المغربية الخالصة المنتمية إلي مدينة العرائش، إنها لا تزال علي قيد الحياة في الدنمارك. كان لمومسات الأمس وقت، أما مومسات اليوم فيشغلن الساعة، ويخادعن: مرَّتْ خمس عشرة دقيقة .
أهنالك حب فاشل في حياتك؟
كانت لي بعض الغراميات الصغيرة. لكنني تزوجت بقراءاتي وكتاباتي وأصدقائي، وإن تزوجت بامرأة يوما ما، فلا أريد أن يكون لي ولد. أخشي أن أتصرف مثلما تصرف والدي معي، دائما عشت حاملا هذه العقدة.
كان أب شكري جنديا فَرَّ من الجيش الإسباني، وكان يقيد ابنه عند شجرة، ويضربه بحزام جلدي، وفي يوم أخذته نوبة غضب، فخنق أخا لشكري حتي تسبب في قتله. لقد قص شكري في الخبز الحافي هذه الحكاية وما كان يكنه في نفسه من حقد علي أبيه، وفعل الشيء ذاته بصيغة مباشرة ومُعرِّيَّةٍ مع من يتحدث عنهم في وجوه من مومسات غرناطة علال؛ الابن الذي تآمر علي أبيه المسن كي يمنعه من الزواج مجددا وألا يتقاسم إرثه مع أحد غيره. هكذا، حولته مواضيعه وأسلوبه إلي كاتب لعين، إلي كاتب يُقارَنُ بالأمريكي بوكوفسكي وبالكوبي بيدرو خوان غوتييرث، لكن وضع اللعين هو أصْخَب في العالم العربي والإسلامي، في 1990 منعت أعماله في مصر بضغط من الفقهاء.
حينما صدرت الترجمة الإسبانية لـ الخبز الحافي كتب خوان غويتيسولو عنك بأنك قد كتبت أول سيرة بيوغرافية عربية عفيفة، وصريحة، وحقيقية. أنادرا ما يُعْلن المرءُ علي الملإ جوانب ضعفه ورذائله؟ من أين تأتيك هذه الشجاعة؟
إن البيوغرافيات العربية التي تحكي بأصابع اليد الواحد تُكْتَبُ باعترافات أقل. أنا لكي أكتب ثلاثيتي البيوغرافية اعتمدت أساسا نماذج غربية؛ مثل اعترافات القديس أغوستين San Agustn، جون جاك روسو Jean ـ Jac Rousseau، سومريست موغان Somereset Maughan، كولن ولسون Colin Wilson، كلمات سارتر Sartre، خوان غويتيسولو Juan Gytisolo في الأراضي المُسَيَّجَة... هذه الكتابة منحتني الشجاعة كي أعبر عن ذاتي، ونحن نعلم أن الأدب العربي القديم كان أكثر حرية من أدبنا الحالي، كثيرةٌ هي المحرَّمات الآن، لكن في العصر الجاهلي وفي بداية الإسلام كان هنالك أدب مثل ألف ليلة وليلة والروض العاطر، كان يُتَوَافَرُ علي حرية تعبير كبيرة. لقد حدث انحطاط في الثقافة العربية، خصوصا عندما خرج العرب من إسبانيا منذ خمسة قرون، لقد ضاعت حرية التعبير، وهيمن التشدد والتعصب الديني. لقد اغتال الدين كل شيء، أتفهم؟ إن المحرَّمات تقتل الحرية والإبداع.
يريد التعصب أن يقتل أيضا سلمان رشدي ونجيب محفوظ وأنت.
نعم، إننا ننزل إلي الحضيض، ليس الأمر مرتبطا هنا بحائط برلين، أو بسور الصين. وهذا لا يمنعني من مواصلة كتابة ما أكتب. إ ن هاجمني أحمق في الشارع وطعنني فالأمر لن يهمني، لأن الإنسان يمضي وتبقي الفكرة. أنا لا أبحث عن الشهادة، لكن إن أصابني سوء الحظ، فليصبني. لست أخشي مواصلةَ الكتابة بنفس الحماس الذي كتبت به الكتاب الأول. أنا أيضا أحمل معي سكينا من الحجم الكبير، ولا أرغب في الذهاب وحيدا إلي المقبرة، ليذهب معي واحد أو اثنان، أتسمع. يمكنني أن أستصحب معي واحدا أو اثنين من هؤلاء الحمقي. لن أذهب وحيدا.
حينما حكيت لبعض الأصدقاء من برجوازية طنجة أني جئت إلي المدينة كي أستجوبك قالوا لي: آه، لا، إن شكري يقدم صورة جد سيئة عن المدينة! .
طبعا، فَبَلَدِِيُّوكَ يكونون أحيانا... طيب، سأطرح عليك سؤالا: هؤلاء الناس الذين يقولون لك إن شكري يقدم صورة سيئة عن المدينة من يكون هؤلاء الناس؟ إنهم معتوهون، معتوهون اجتماعيون، يَدْعُونَكَ إلي طَجِينٍ، أو كسكس أو حريرة في بيتهم، وهم لم يقرؤوا ولو نصف دستة كتب. أنا قرأت أربعة آلاف كتاب، ويمكنك أن تثق بي أكثر منهم. أنتَ يدعونك إلي طجين، وإلي أن تقضي وقتا ممتعا، وإلي تدخين لفائف كيف أو حشيش: لكن، اسمع، إنهم لن يقنعوك بهذا، أليس كذلك؟ ما تقنعك أكثر هي الكلمة، ففي البدء كانت الكلمة، هؤلاء متغوِّطُون، لم ينجزوا أي شيء ذا بال في حياتهم.
حسنا، لنتكلم عن طنجة. كانت هنالك ثلاث مدن كوسموبوليتانية في البحر الأبيض المتوسط، هي: الإسكندرية، بيروت وطنجة. لقد قضت النزعة الوطنية والأصولية الإسلامية علي الإسكندرية، لكن بيروت وطنجة لم يُقْضَ بعدُ عليهما، بالرغم من أنهما قد تُرِكتا واهنتين. طنجة لا تزال مختلفة، حرة ووغدة، كيف تعرِّفُ طنجة؟
طنجة مدينة أسطورية، والأسطورة لا تُفَسَّرُ، إنْ فسرتها تتخلي عن أن تكون أسطورة، إن لها أسرارها.
كان الحوار يدور بطنجة في فندق ريتز Ritz الذي لا علاقة له بترف فنادق ريتز بباريس ومدريد، هناك المكتب الإداري لشكري، وهناك يستقبل صباحا. وبينما كان الكاتب والصحافي يتغذيان ويتحدثان، كانت قنينة الخمر تنقص حجما بوتيرة سريعة. كان الحديث باللغة الإسبانية التي يتكلمها شكري بطلاقة وظرافة شأن الكثير من الطنجيين.
يُلاحَظُ عليك إعجابك بإسبانيا.
صحيح، صحيح! لقد كان لدي هنا أصدقاء إسبانيون كبار، ابتداء من الغجر والأندلسيين الذين كانوا شبيهين بنا، مهمشين، وأيضا كان لدي أصدقاء معلمون وأساتذة وكُتَّاب إسبان كانوا أصدقاء لي ولا يزالون كذلك. لكن، لم يكن لي أبدا صديق فرنسي، للصراحة، ومع الإنكليز والأمريكيين كان الأمر شيئا آخر، فقد كان لكي أنكحهم ولينكحوني؛ ليس فيزيائيا، وإنما فكريا.
أتقرأ للكُتَّاب الإسبان؟
طبعا! وأيضا تَرْجَمْتُ لشعراء إسبان؛ ترجمت قصائد لِـ: بِيكِرْ، الأخَوَيْنِ مَاشَادُو، فِثِنْطِ أَلِكْسَنْدْرِي، وغَابْرِييِلْ سِيلَايَا، لوركا، لَابُرْدِيطَ، سُوسَازَنْ مارْشْ... ترجمتهم إلي العربية.
من هو الكاتب الإسباني المفضل لديك؟
لدي انطباع الآن بأن أمريكا اللاتينية قد تجاوزت إسبانيا بأسماء مثل خوان رولفو، وكورطثار، وغارسيا ماركيز، وفارغاس جوسا... هذه الأسماء ليس لديها نظير في السرد الإسباني المعاصر. لكني أقْدُرُ خوان غويتيسولو و طُورِّنْطِ بايِّسْطِرْ، ومن الكلاسيين أنا ممن يقدر سرفانتِسْ.
أتقرأ هؤلاء بالإسبانية؟
إن لم تكن الإسبانية! فبأية لغة كنت سأقرأهم؟
الآن، وقنينة الخمر فارغة، والمعدة ساكنة، يتوجه شكري والصحافي إلي بيت الكاتب، إنه المنزل الأعلي والأخير في عمارة قريبة من فندق ريتز. صعد شكري الطوابق الخمسة راجلا ـ إذ لا مصعد بالعمارة ـ ودون أن يتخلي عن التدخين. البيت قلعة من ملابس، وأوان، وأجهزة إلكترونية قديمة، وكتب، وأوراق، وصور لشكري رفقة كُتَّابٍ مثل: بول بولز، ألبرتو مورافيا، جون جونيت، غويتيسولو، الطاهر بن جلون... وهناك لوحة جد مرئية للزعيم الريفي عبد الكريم. يطلع شكري مدعوِّيهِ علي كتبه الشخصية، بما في ذلك 48 ترجمة إلي اللغات الأخري للخبز الحافي، ومجموعة الدمي المعوَّقة ـ هكذا يسميها ـ ؛ دمي تنقصها أعين، أذرع، أرجل أو أرؤس.
لقد أحضر الصحافي لشكري قنينتي شراب من مالقة، واحدة من طرف المستعرب برناب لوبي غارسيا الذي عاش سنوات طويلة في طنجة، وأخري هدية شخصية. فتح شكري واحدة، قدم كأسين كريمتين، ووضع في الفيديو شريطا. إنه برنامج Apostrophes، البرنامج التلفزي لبرنارد بيفو الذي مرَّت عليه عشرون سنة، وكان لا يزال بالأبيض والأسود، وكان فيه شكري ضيفا ـ كانت المرة الأولي التي أخرج فيها من المغرب لكي أتكلم عن كراهية الأب بمناسبة صدور الترجمة الفرنسية للخبز الحافي بفرنسا، الآن ، يقول أتفهم جيدا سلوك أبي. لقد كان عنفه صادرا عن العنف والبؤس الذي كان يعيشه المغرب تحت وطأة الاستعمار. حينما هربت من المنزل كنت أعيش في المقابر كي لا أُغْتَصبَ من الكبار .
لكن الأشياء لم تتحسن كثيرا بعد أكثر من أربعين سنة من الاستقلال، فالمدن المغربية مكتظة بالأطفال والمراهقين والشباب الذين يعيشون في الأكواخ، يقدمون أنفسهم مرشدين سياحيين، يبيعون الحشيش، يمارسون الدعارة أو يحترفون القوادة، يحلمون بالسفر إلي أوروبا علي متن القارب.
اسمع، الآن ربما كان الأمر أسوأ. وأنا ما أزال أتكلم عن هذه الأشياء. أنا أُعْتَبَرُ في العالم العربي كاتبا بورنوغرافيا، لأنني أتكلم عن الجنس، لكنني أسعي إلي أن أقدم بعض القيم في كتبي.
أية قيمٍ؟
أنا ملتزم اجتماعيا: وأميل إلي الدفاع عن الطبقات المهمشة والمنسية والمسحوقة. أنا لست إسبارتاكوس، لكني أعتقد أن الناس جميعا لديهم كرامة يلزم احترامها، بالرغم من عدم حصولهم علي فرص في الحياة.
لقد عاش في طنجة الأربعينيات والخمسينيات والستينيات أشخاص أمثال: بول وجان بولز، وترومان كابُّوتِ، وسيسيل بيتون، وتينيسي ويليامس، وغور فيدال، وويليامز بوروز، وألن غينسبرغ، وجون جونيت، وألبرتو مورافيا، وجاك كيرواك... كانت مرحلة طنجة البوهيمية، طنجة jet ـ set، وطنجة beatnik، وطنجة globe ـ trotters. ومع ذلك فقد قلت عن هؤلاء الأجانب؛ إنهم يأتون إلي طنجة مثل الذي يجيء ليري قردا يقفز من شجرة إلي أخري ، أتظن أن ذلك يصدق علي صديقيك جونيت وبولز؟
لا أظنه يصدق علي جونيت الذي كان أصْلِيًّا، لكن عن بولز يكون الأمر صحيحا، لقد جاء إلي هنا باحثا عن مغرب ساذج. كان الأمر سيروقه لو استمرَّ المغرب علي ما كان عليه في الثلاثينيات، فقد كان يحب مغربه الخاص. تقريبا كلُّ أجانب المرحلة الذهبية لطنجة قدموا إلي هنا باحثين عن الغرابة والملذات؛ كي يدخنوا الكيف والحشيش، ويكون لديهم فتيات أو فتيان... أنا لست ضد هؤلاء الناس، لكنهم لم يمنحوني الفرصة لأعيش مثلهم. كان الأسوأ أن تعيش في الجانب الآخر، كان الأسوأ هو أن نشعر بالاحتقار نحن الذين نعيش في الجانب الآخر، أنا أيضا، كان سيروقني لو أني عشت تلك الحياة الناعمة، لكن حياة أولئك الأشخاص كان ثمنُها سحقَ الآخرين. وسحق الآخرين عملٌ بدائيٌّ، أتفهمني؟
لكن بولز قدَّمَ لك الهدية، فقد ترجم الخبز الحافي إلي الإنكليزية.
يا لها من هدية كبيرة!
كيف اشتغلت مع بولز علي الترجمة الإنكليزية للخبز الحافي ؟
كنت أترجمها ذهنيا من العربية إلي الإسبانية التي أتحدثها، وأمليها عليه. وبولز الذي كان يتكلم إسبانية راقية أفضل من إسبانيتي كان يكتبها بإسبانيته، وبعد ذلك كان يترجمها إلي الإنكليزية. انتبه! مغربي وأمريكي يتفاهمان في طنجة باللغة الإسبانية.
أتكتبُ شيئا جديدا الآن؟
لا، أنا أصحح أشياء قديمة، اسمعْ، سأعترف لك بشيء: أنا أريد قتلَ الشهرةَ التي مَنَحَتْنِي إياها الخبز الحافي . لقد كتبت زمن الأخطاء ولم تمتْ، كتبت وجوه ولم تمتْ. إن الخبز الحافي لا تريد أن تموت، وهي تسحقني. أشعر أنني مثل أولئك الكتاب الذين سحقتهم شهرة كتاب واحد شأن سرفانتيس مع دون كِيخُوتِ، أو فلوبير مع مدام بوفاري، أو د.ه. لورنس مع عشيق الليدي شاترلي . فالخبز الحافي لا تزال حية رافضة أن تموت، ابنة عاهرة. الأطفال في الشوارع لا ينادونني شكري، بل ينادونني الخبز الحافي . هذا الكتاب يقول لي يوميا ها أنا، هنا، حي .
وإذن، فستستمرُّ محاولا قتلَ الخبز الحافي .
طبعا! أنا عنيد، أنا من برج التيس، إذ تعلم أن الذئب سيأكلك لا محالة، لكنك تنطحه. وجوه ليس توديعا للكتابة، فالكاتب لا يُوَدِّعُ الكتابةَ حتي يُودِعُوهُ قبرَهُ.
وأنت، أليست لك نية في الذهاب قريبا إلي القبر.
لا، لا، لا!
أجري الحوار: خافيير فلانزويلا
ترجمة: مزوار الإدريسي
جريدة الباييس الملحق الثقافي بَابِلْيَا السبت 5 أكتوبر 2002