~*~
[ .. قراءة في رواية : لعبة النسيان .. ]
.. بقـــلم / إبراهيـــم القهوايجي ..
~*~
\" .. نتيه وسط خضم العالم ونلهث، عبثا ، لنوهم النفس أن الأشياء لم تتبدل عما كانت عليه. لكن الدليل العكسي يأتي في شكل انفجار يجرف المقاييس والقيم ، ويخلخل العلائق .. \"
محمد برادة : \" لعبة النسيـان \" ص : 88 .
إذا كانت الرواية العربية في المشرق قد حققت تراكما كميا ونوعيا في الستينات , وبدأت ترتاد دروبا جديدة في الانفتاح والتجريب , فإن الرواية المغربية في إبان هذا التاريخ ستشهد فقط انطلاقتها الفعلية , لذا سنحاول في هذه العجالة استجلاء معالم التطور الذي تبلور في متنها الروائي بثوابته ومتغيراته , مع الوقوف أساسا على ذلك التحول في الكتابة الروائية المغربية الحديثة من خلال رواية ’’ لعبة النسيان ’’ لصاحبها د محمد برادة .
[ .. الرواية المغربية بين الثابت والمتحول .. ]
يقسم البعض تاريخ الرواية المغربية الحديثة إلى ثلاثة أطوار هي :
أ - طور الانطلاقة الفعلية : ويوسم بعدم وعي كتابه الروائيين الثقافي والنقدي الذي يمكنهم من فعل الكتابة , وعدم اطلاعهم على التجارب الروائية الأخرى , وهذا ما أفرز انتاجات روائية ’’ هجينة الشكل , تقريرية الأسلوب , أكثر التصاقا بالسردية بمعناها القدحي , في إطار تقليدي يقلد الرديء من الأعمال ، و لا يطمح إلى خلق لحظة إبداعية مواكبة للواقع , عن طريق مزج الواقع بالفن ’’ ( 1 ) , ولعل الثابت المركزي فيها كان تبئير الذات , خصوصا وأن أول رواية مغربية استجابت لمكونات الفن الروائي آنذاك هي ( في الطفولة ) لعبد المجيد بن جلون والصادرة عام1957, كانت عبارة عن سيرة ذاتية , فالميثاق السير ذاتي شكل في وعي كتاب المرحلة تداخلا مع الميثاق الروائي , ومن تجليات ذلك نصوص : ’’سبعة أبواب’’ و \" دفنا الماضي ’’ لعبد الكريم غلاب , فالذات لدى هؤلاء الكتاب كانت هي المحدد الأول في رؤيتهم للواقع , وهذا ما جعل الرواية المغربية ’’ لم تنبت خارج مدار الصراع الاجتماعي الذي عرفته مرحلة ما بعد الاستقلال في1956 ’’ ( 2 ) . وتبعا لذلك ستتسم نصوص هذه المرحلة بـ ’’ الاذقاع الفني’’ - حسب تعبير محمد برادة - الذي اعتبرها مجرد إنشاءات مدرسية ليس إلا . مقدما نماذج لذلك منها : ( غدا تتبدل الأرض ) لفاطمة الراوي , ( أمطار الرحمة ) لأحمد البوعناني , ( بوتقة الحياة ) لأحمد البكري السباعي , ( إنها الحياة ) لمحمد البوعناني ( 3 ) .
ب - طور السبعينات : لم تأت هذه المرحلة بأي جديد في الكتابة الروائية المغربية اللهم ما تعلق بكون النقد غدا مفروضا عليه مواكبة القضايا المجتمعية لشيوع نبرة الالتزام المتعالية حينئذ , بفعل الدخول القوي للمد الاشتراكي , فكان من الصعب التمييز بين النص الروائي والواقع الاجتماعي , ولعل ما زكى هذا الطرح ظهور وانتشار تلك المناهج النقدية ذات الأسس الماركسية والاجتماعية , فاتسعت دائرة النقد الروائي تبعا لذلك من خلال إنجازات من مثل قراءات نجيب العوفي و ادريس الناقوري .. وظلت الرواية المغربية حبيسة الموضوعات المكرورة بسبب فقر رؤية الكتاب إلى الواقع والكتابة , لذلك باتوا سجيني الرؤية الأحادية التسطيحية .
ج - طور التحول : مع نهاية السبعينات وبداية الثمانينات حدث تحول هام في الحساسية الفنية والفكرية لدى الكتاب المغاربة الذين وعوا آليات الكتابة الروائية الجديدة , واطلعوا على الإنجازات النقدية الجديدة - البنيوية - , وتراجعت النبرة الاجتماعية والإيديولوجية في التحليل النقدي ، وتوسع التعليم الجامعي الذي انخرط فيه بالتدريس جل هؤلاء الكتاب , فلا غرو إذا أن تخرج الرواية المغربية من معطف التعليم , وهو ما لا نجد له مقابلا في الأقطار الأخرى , ولعل محمد برادة واحد من الروائيين المغاربة الذين تسري عليهم هذه الخصيصة بامتياز . وستشهد مرحلة التحول ظهور نصوص روائية حديثة رانت التجريب بالأساس , ومن بينها: ’’أبراج المدينة’’ لمحمد عز الدين التازي , ’’ زمن بين الولادة والحلم ’’ لاحمد المديني ونصوص أخرى تركز على الخصائص الجمالية وتكثيف اللغة الشعرية .
لعبة النسيان ، رواية الذاكرة وملامح الحداثة :
سبق القول بأن هناك طغيان للميثاق السير ذاتي على المتن الروائي المغربي , ومن هنا هيمنة المتذكر الذي لم يصل إلى درجة التخييل في السابق , وحتى رواية ’’ لعبة النسيان ’’ هي في عمقها سيرة ذاتية , لكن صاحبها يسعى فيها إلى الخروج عن الميثاق السير ذاتي الكلاسيكي , وبالتالي يحاول أن يخضع سيرته الذاتية لمنطق الرواية , وليس العكس , وهذا ما يتجلى في هذا النص من خلال مجموعة من الملامح والمعطيات ;
السرد المتعدد : حاول الكاتب أن يبرز تجليات خضوع رواية ’’ لعبة النسيان ’’ لميكانزمات التخييل الروائي بخصوص لعبة السرد , فالسارد في هذه الرواية تتغير وضعيته من فصل لآخر , بل إنه يظهر في صور متعددة :
1 – السارد المجهول , الذي هو في العمق ليس إلا صورة ثانية لشخصية الهادي حتى يوهمنا الكاتب بالموضوعية والواقعية .
2 – السارد الجمع , وتشغل محفله النسوة الجارات .
3 – السارد الذاتي/ الهادي .
4 – راوي الرواة , وهو السارد الأعلى الساهر على المسار السردي في الرواية .
وفي كل فصل نجد تحويرا للثلاثي السردي : 1 - 2 - 3 , ففي فصل يغدو السارد فيه هو سيد الطيب , وفي فصل ’’ ما قبل تاريخنا ’’ يختفي السارد الجمع , ويبقى السارد المجهول والسارد الذاتي , وفي فصل ’’ زمن آخر ’’ نعثر على سارد واحد هو راوي الرواة , الذي يقوم في الفصول الأخيرة بوظيفة التعليق . ولعل تعدد الساردين في الرواية يعد تجليا لخروج نص اللعبة عن الميثاق السير ذاتي , لأنه لم يعد - كما هو الحال في السيرة الذاتية الكلاسيكية - مضاء من طرف سارد أحادي , بل تعداه إلى ساردين خارجيين وساردين شاهدين .
اللعبة الزمنية : تقوم ’’ لعبة النسيان ’’على الانزباحات الزمنية , وعلى المفارقات الزمنية التي تظهر من خلال الاستباقات و الاسترجاعات المخلخلة لخطية السرد , والمنتجة للسرد المتداخل , فشريط التذكر لا يرتبط بالمنطق الكرونولوجي للأحداث , يقول الهادي ’’ أراك بعين الطفل المبهور تدق الباب البرانية وتصيح بنا لنسارع إلى رفع المزلاج ’’ ( 4 ) , فهذا التداخل الزمني , في هذا المقطع , بين زمن الحكي وزمن الطفولة ينسجم ورواية الذاكرة بامتياز , لأن الذاكرة تتعايش فيها جميع الأزمنة المختلفة .
اللعبة اللغوية : قدمت لنا ’’ لعبة النسيان ’’ مادة تاريخية واجتماعية ونفسية عن مغرب ما قبل الاستقلال إلى مرحلة بداية الثمانينات , غير أنها لم تكتف بنقل الأحداث والوقائع فقط , بل نقلت لنا أيضا لغات ذات بنيات معجمية متنوعة , منها ما لم يعد مستعملا , وأصبح في طي الانقراض , ففي خطاب موجه إلى الهادي من قبل زوجة خاله : ’’ كيتك وخلا دارك أبوسلوفان دابا تشوف والله وقبضتك نتفك بربش وقرب لهنا ’’ ( 5 ) . وتطفح الرواية أيضا بتعدد المحكيات \" فهناك المحي الفصيح , والمحكي العامي , والمحكي الأجنبي , وهذا التداخل اللساني يمنح الرواية ثراءها وقوتها , ويسمح بتفصيلات الوعي عبر المقاطع الحوارية , فضلا على التعبير عن الواقع في تعدده , وبذلك يتفوق الكاتب في اللعبة في جعل شخوصه يتحدثون بلغاتهم الحقيقية , وهذا ما زكى في الرواية تعدد الأصوات البوليفونية .
لعبة الميتا- سردي : حاولت رواية ’’ لعبة النسيان ’’ أن تفكر في تصورات الكتابة الروائية, ولعل هذا الخطاب الميتا - سردي هو الذي يسعى لتقديمه لنا راوي الرواة , فعن مكون الزمن يرى أنه ’’ يتغير نتيجة لوعي الناس بتجربتهم مع الزمان وقد تكون تجربة متشابهة في العمق ولكن مسافة اكتشاف العلائق مع الزمان من الغرارة إلى النضج هي التي تسبغ الجدة على الديمومة وتقوي الوهم بالانتصار على الموت البطيء الكامن في خطى الزمن الوئيدة ( 6 ) . هذا فضلا عن تساؤلاته عن كيفية تنظيم وتوجيه السرد , يقول في هذا الصدد \" ’’كيف أوجه السرد ألملم خيوط الحكي المتناثرة بين أكثر من سارد لأجعلها مقنعة مثيرة لفضول القارئ ( 7 ) .
لعبة الأم : إن حضور الأم في ’’ لعبة النسيان ’’ جوهري , ذلك أن هذا عنوان هذا العمل الروائي مضلل , لأنه في العمق لعبة للتذكر وليس للنسيان , مضافا إليها جانب التخييل , حيث تقدم الشخوص من خلال مشاعر وانفعالات أولئك الذين يقدمونهم , فالأم في الرواية مضاءة من عدة زوايا سردية وشهادات خارجية , وكل وجهات النظر حولها ترسم صورتها الجميلة , لأنها تحتل مركز الأسرة , لذلك ستنغرس ذكراها إلى الأبد في شخصية الهادي , فلا غرابة إن تسمى ’ للا الغالي , وهي تحضره بصورتين\" الأولى صورة الوالدة / الام , والثانية صورة الأم / الحبيبة \" ’’ تحتضن للا الغالية الهادي وتجلسه ... وهي تقول : شكون يا خيتي عندو ولد غزال بحال ولدي ’’ الرواية ص : 10 , ’’ أمي , سترين أنني أحبك ... لن أزن الكلمات .. ’’ الرواية ص : 149 , غير أن الأم تحمل في الرواية أكثر من اسم : للا الغالية , للا ربيعة , فاس , الوطن .. ولها أكثر من صورة , إنها بين الخيال والواقع , وبذلك تكتسب قيمة رمزية تتجاوز الزمن , ففي البدء كانت الأم / الفصل الأول , ومع النهاية أيضا تبدأ / الفصل الأخير / من منكم يذكر أمي , فرغم تعدد وجهات وزوايا النظر حولها , إلا أنها كلها تصب في إخراجها في صورة بهية .
على سبيل الختم :
إن هذه التجليات الحداثية لخروج ’’ لعبة النسيان ’’ عن مواصفات الطبعة الكلاسيكية للرواية المغربية الحديثة , تعد من العلامات الفارقة الدالة على ارتيادها عالم المتخيل الروائي , وولوجها آفاق التخييل الرحبة , وتحررها من الطوق السير ذاتي الحاكم لها , حيث غدا الروائي المغربي الحديث يعطي لنفسه حرية اكبر في التفكيك والتركيب .
* * * * *
الهوامش والإحالات :
- نص القراءة المقدمة بثانوية ابن سينا في إطار أنشطتها الثقافية للموسم الدراسي 2001 / 2002 بتاريخ : 15 / 05 / 2002.
1 - د. محمد عفط : ’’ الرواية الحديثة : بنيات وتحولات الرواية المغربية الحديثة \" رواية الثمانينات نموذجا ’’ رسالة مرقونة دبلوم الدراسات العليا .
2 – محمد عز الدين التازي : ’’ الواقعي والمتخيل من خلال علائق البحث النظري والكتابي في الرواية المغربية ’’ , ضمن كتاب \" ’’ الرواية العربية واقع وآفاق ’’ دار ابن رشد , بيروت , ط1, 1981 , ص : 231 .
3 – سيد حامد النساج : ’’ بانوراما الرواية العربية الحديثة ’’ , المركز العربي للثقافة والعلوم . بيروت , ط1 , 1982 .
4 – د محمد برادة \" ’’ الرواية المغربية ’’ , مجلة الرواد الليبية , س5 , ع5 , مايو1969, ص :61 .
5 – محمد برادة : ’’ لعبة النسيان ’’ ص : 23 .
6 – نفس المرجع , ص:131 .
7 – نفس المرجع , ص :54 .
~*~