عبد اللطيف محفوظ
الدلالة الأيقونية للأبواب في رواية “لعبة النسيان”
إمدادات هذا الكاتب عبد اللطيف محفوظ 24 سبتمبر 2007
إذا كان الفضاء الروائي يعتبر مكونا دلاليا أساسيا، فليس لأنه يساهم في رسم الفضاء اللازم لتحقق الأحداث وتحرك الشخصيات وجريان الزمن وحسب، ولكن لأنه يشكل في بعض الروايات – التي يعي أصحابها أهمية الكلمات وما تختزنه من موضوعات إيحائية – آلية أساسية لإنتاج المعنى وتحقيقه. أما حين تكون هذه الكلمات إظهارات لموضوعات مرتبطة بأمكنة لها أبعاد تراثية وحضارية كونية أو قطرية أو حتى أفرادية، فإن الفضاء المتولد عنها قد يصبح مشكلا للعنصر المهيمن، الذي يجب أن تتأسس عليه القراءة..
ولما كان الإظهار الروائي لا يستطيع إلا اقتطاع شكله من المتبدي العام الذي يحايثه، فإن الفضاء العام الذي تتخذه كل رواية حيزا لأحداثها وتحركات شخصياتها، قد يكون مشاكلا أو مناظرا لفضاء معطى من قبل الموسوعة. إلا أن هذا التناظر لا يعني البتة التطابق، وذلك لأن الفضاء الروائي لا يتجسد إلا من خلال أدلة لغوية تتتابع داخل نسيج التوارد السردي، ويعني ذلك أن الأدلة توجد في حالة تركيب. والتركيب يمنح الأدلة إلى جانب محتوياتها المعيارية محتويات سياقية. وهذه المحتويات السياقية هي التي تمنع التطابق، وتعطي البعد المرجعي للفضاء بعدا نصيا..
وهكذا، وفق هذا الوعي بسيرورة الإنتاج والتلقي، تصير الأمكنة والأشياء – بفضل الوصف – أدلة منتجة لدلالات ترتبط بموضوعات سياقية. وطبيعي أنها لا تصير كذلك إلا بفضل علاقات المشابهة أو المجاورة بين الأمكنة والأشياء وبين الموضوعات السياقية. إلا أنه لن يتم الاهتمام في هذه الدراسة إلا بإظهار الجانب المتعلق بمدلول الأبواب بوصفها أيقونات لموضوعات سياقية. وذلك من خلال تحليل العلاقة الواضحة بين شكل بناء الوصف المقدم لها وبين الدلالة العامة التي تؤشر عليها الرواية:
تظهر الأبواب في مشروع بداية ثالثة. وتعتبر هذه البداية، البداية الفعلية للرواية، بينما تعتبر البدايتان السابقتان نوعا مخصوصا من الميتا حكي، الذي فيما ينقل تجربة بداية الإنجاز الإظهاري للرواية ولموضوعها الدينامي، يؤشر على إبعاد بعض الموضوعات الأخلاقية الجانبية عن الدلالة المركزية للرواية. فعملية نفي مشروع “بداية أول” الذي قدم الكاتب من خلاله مشهد موت الأم من خلال وعي الابن تتولى التقليل من أهمية الموت وإن كان موضوعه الوجودي هو الأم البيولوجية أو الرمزية حتى. أما عملية النفي الثانية فتنصب على بداية تركز على الأم في ذاتها بوصفها موجودا ذا علاقة بحياة الابن. وتؤشر هذه البداية على مقاطع شتى من الرواية تتحدث عن الأم، عن غيابها وحضورها. وهكذا يتضح أن إصرار الكاتب على وضع بدايتين ممكنتين، هو في الواقع تقليص لأهمية الخطابات التي سترتبط بها داخل الرواية، وحرص على حصر تلك الخطابات في حدود تشكيل عناصر مساعدة للدلالة العامة للرواية وحسب. وبذلك ينبهنا إلى ضرورة التخلي عن التقليد النقدي الذي يربط بين الأرض والأم، وذلك عن طريق التأكيد على أن الأم هي الأم البيولوجية فعلا، وحسب. وأن التفكير في علاقة الابن بها هي مقصودة في ذاتها لكي تؤدي وظيفة الاحتماء من الخيبة الحياتية..
إن تخلي الكاتب عن البدايتين الأوليين يعتبر تأشيرا هاما على أن الفضاء هو العنصر الهام والموصوف من قبل الرواية ويتمثل في المنزل، وذلك على اعتبار أنه يشكل الملاذ والملجأ والموطن، ويشهد على الزمن الذي يجري من خلاله وعبره، تاركا عليه بصماته المطبوعة في أركانه وطلاء جدرانه وشقوق سقوفه، ويضم القاطنين أجيالا تلو أجيال، ويشهد على ميلاد سكانه وموتهم..
تحضر الأبواب من خلال هذه البداية المحتفية قصدا بالمكان، وتتمظهر أهميتها انطلاقا من تصدرها لتلك البداية. ورغم هذا، فلكي يتأكد أن شكل حضورها وتصدرها للرواية يؤشر على دلالات مخصوصة، لا بد من استنتاجها، فإنه يتعين دفع الاعتراضات الممكنة التي من شأنها تفنيد ذلك. وخاصة الاعتراض الكامن في إمكانية القول إن الوصف المقدم للأبواب هنا، هو وصف مألوف وعادي ناتج عن ضرورة منطقية مفروضة من قبل الاعتيادية الوصفية للرواية الكلاسيكية، التي تصف الأمكنة انطلاقا من رؤية محايدة. ومن ثمة القول إن انطلاق من وصف المكان إلى وصف الأبواب إلى وصف الفناء ثم إلى وصف مكونات البيت الداخلية ليرسو الوصف عند الأم “للا الغالية” ليس سوى تحقيق لتلك الرؤية. إن هذا الاعتراض وإن عضدناه بحفيفة كون الدليل اللغوي المدمج في نص تخييلي ما، لا يتطابق، لن يصمد، لأن الدلالة الأيقونية لوصف الأبواب أكثر وضوحا من أي دلالة أخرى، ويتأكد هذا يدءا من بداية الوصف: “يكاد يكون زقاقا لولا أنه طريق سالكة.. يكاد يكون زقاقا لولا أنه طريق سالك تفضي بك إلى باب مولاي إدريس، والنجارين، والرصيف، والعطارين… وباب الدار الكبير لا يواجهك، تجده على يمينك إذا كنت نازلا من « ﮔرنيز»، أو على يسارك إذا أتيت من « سيدي موسى». نصفه الأعلى قطعة واحدة مرصعة بمسامير غليظة، والنصف الأسفل الذي ينفتح، له خرصة كبيرة ويمتد نصف متر إلى ما تحت مستوى الزقاق، وعلى الداخل أن يحني رأسه ويخطو خطوتين، ثم ينزل الدرج ويخطو قبل أن يواجهه الباب الثاني، شبيه الأول غير أن خشبه أقل ثخونة ودرجه أقل علوا، ثم يخطو ثلاث خطوات ليقطع السطوان الثاني قبل أن يرتاد الباب الثالث ذا الخشب النحيل، ويجتاز العتبة لتطالعه السواري، وفناء الدار، والخصة التي ينفر منها الماء في دفقات متكسرة..”
إن تملي التراتبية التدرجية للعناصر الموصوفة في علاقتها بالمراجع الفعلية، التي هي الأمكنة التي يمكن التعرف عليها ميدانيا، يفيد عدم التطابق بين الموصوفات وبين مراجعها الفعلية كما يفيد عدم تطابق الأمكنة التي يجعلها الوصف مؤدية إلى موقع المنزل، مع الأمكنة الفعلية المؤدية إلى موقعه. إن المقارنة بين الأدلة الوصفية والمراجع الفعلية يفيد، خاصة في مستوى التدرج، أن التراتبية لا تفيد التوارد التدرجي وتدريج العناصر وفق ما هي عليه في الواقع، بل تفيد فقط سمة المسلكية التي تعمل على نفي علاقة الضيق بعدم “التسليك”. ومن خلال تراكم الأدلة الدالة على المسالك، يتضح الاختزال والارتجالية المقصودين قياسا إلى الفضاءات المرجعية، حيث لا وجود لأي تناسب منطقي نابع من الطوبوغرافية المرجعية، يسمح بوضع ذلك التوارد، لأن باب مولاي إدريس والنجارين والعطارين أمكنة متجاورة، توجد الواحدة منها في حدود الأخرى، أما الرصيف فتفصله عن تلك الأمكنة عدة أحياء. ولذلك لم يكن من المنطقي أن يأخذ ذلك المكان المخلخل للتدرجية الفعلية للمسلكية، ذلك الوضع ما لم يكن مؤديا لدلالة نصية تنبني على التعارض الواضح بين المكانين المرجعيين: الواقعي والتخييلي. إن هذا التعارض الملموس يدعو إذن إلى البحث عن الدلالة النصية وذلك من خلال التوارد النصي وحده، وفي علاقته بالتواردات الموضوعاتية الداخلية المشكلة للحمة النص. إن المكان المدرج في البداية هو ضريح المولى إدريس. والضريح باعتباره يمثل صورة المقدس الدنبوي، هو في نفس الوقت مثوى رجل تقي ومسجد. ولذلك اعتبر من قبل المعرفة الشعبية السائدة خلال الزمن المؤشر عليه من قبل الرواية، ومن قبل شخصيات الجيل الأول، رمزا للمقدس الذي يجعل المسافة بين العابد والمعبود قريبة. وإذن فالمكان الذي تبوأ الرتبة الأولى، هو مكان العبادة والتطهر الروحي والحياة في فضاء مزدوج مؤلف من سمات الفضاء السماوي والأرضي. إنه فضاء آهل بأطياف الملكوت التي تحيط المكان وتنشر الأمان والطمأنينة النفسية التي تجعل الحجيج في رحاب الرحمن، ولكنه في نفس الوقت بفضل طابعه الأرضي يخفف من ثقل الحضور الروحي كما يخفف من الهالة القدسية ليمنح بذلك فسحة بينية تتيح للحجيج من النساء خاصة أن تؤطرن حياة الدنيا بحياة الروح وأن تتمتعن بفسحات الاستجمام البديلة عن الحدائق والمنتزهات الريفية في رحاب المكان البيني الذي يأخذ أحيانا معنى الحريم.. حيث يتحول بين العصر والمغرب إلى مكان للثرثرة والشكوى والتخفف من الهموم الذاتية عن طريق إطلاق العنان لآلام الآخرين.. بينما يرتع الأطفال، الذين تصطحبهم أمهاتهم لكي يشكلوا في الواقع درعا واقيا لهن من أي تحرش ذكوري أو من أي ريبة، في متعهم الخاصة حيث ينخرطون بتلقائية في اللعب مع أقرانهم شأنهم شأن النساء اللواتي يصرفنهم حتى يتحررن في الحديث التلقائي أحيانا والمبيت أحيانا أخرى.
إن السبق الذي يأحذه الضريح هو إذن سبق تحتمه التراتبية الوجودية للديني والدنيوي، مثلما تحتمه أيضا تراتبية مراحل عمر الشخصية المبأرة في الرواية (الهادي)، حيث حضور الضريح يتساوق مع مرحلة الطفولة أيام كانت للا الغالية تصطحبه معها .بينما يتلو المكان المقدس مكان يؤشر على عمل يدوي يحضر في شكل نشاط إنساني خلاق، يتصل بالصناعة التقليدية، ويمثل مهنة إحدى أهم شخصيات الرواية التي ستحظى بفصل كامل، ويتعلق الأمر بسيد الطيب الذي كان يمارس مهنة الحياكة ويدير الدراز. وإذن فالمكان الثاني يؤشر على العامل الثاني الفاعل في حياة الشخصيات الأكبر سنا (سيد الطيب وللا الغالية)، ليتظافر مع المكان الأول (الضريح/ المسجد) حيث تضافر صورتي العبادة والعمل. وبعد هذين الفضائين هناك فضاء التجارة الممثل بمكانين يمثلان أنواع المواد المختلفة وهما (العطارين والرصيف*) إن المقارنة بين تراتبية هذه الأمكنة في علاقتها بالأمكنة المرجعية يوحي بأنها تراتبية رمزية تتغيا جعل المتلقي يدرك أن الرتبة الواقعية التي عمل الكاتب على خرقها إنما تريد أن تقيم تراتبية معينة للقيم الملاصقة للممارسات الإنسانية والتي هي على التوالي (عالم العبادة وعالم الصناعة وعالم التجارة). وتعبر هذه التراتبية، عن التراتبية العملية والروحية لسيرورة أحداث الرواية. كما تعبر عن الأعمال التي انشغلت بها شخصياتها بالتدريج: فشخصيات الجيل الأول ارتبطت بفضاء العبادة والصناعة (مسجد المولى إدريس والدراز)، أما شخصيات الجبل الثاني ممثلة في الطايع والسي إبراهيم، فامتهنت الحرف اليدوية، بينما ارتبط عالم المهن الحرة بشخصبات الجيل الثالث. إن الدلالة الأيقونية للتوارد التدرجي للأمكنة ليدعم قبل الدلالة الأيقونية للأبواب الثلاثة، الدلالة الأبقونية لتراتبية المهن. ذلك أن المضي من فضاء العبادة إلى فضاء الصناعة التقليدية إلى عالم التجارة بكل أنواعه، يتساوق مع تطور مهن الأجيال الثلاثة التي يرصدها السارد الرئيسي (الهادي). غير أن التأمل العميق في العلاقة الأيقونية الرابطة بين الأمكنة والمهن وشكل تواردهما المنسجم، يفيد نوعا من الهبوط في المستوى، فالصناعة ليست هي العمل اليدوي، وهذا الأخير ليس هو التجارة. ومن الواضح أن التراتبية تجسد أيقونيا التراتبية التي تفرزها التصورات الشعبية، التي تمجد الصناعة وتعتبرها أسمى من غيرها (إذا لم تغن، فإنها تستر)، وبعدها يأتي العمل اليدوي الذي يجعل المرأ عزيزا لأنه (يأكل من أجر عرق جبينه)، بينما ينظر في الغالب إلى التجارة نظرة مزدوجة، فهي من جهة تشكل إكسيرا للطفرات الكبرى في حياة الأفراد، ومن جهة ثانية تخشى من قبل العديدين نظرا لاقترانها بالربا وأنواع التدليس.. (سعيد وعزيزة) وبالخسارة أيضا، ولذلك فإنها غير مأمونة، هذا إضافة إلى كون أنواع عديدة منها ليست إلا بديلا للبطالة. ولعل الأستاذ محمد برادة قد جسد هذه الازدواجية في ذكر العطارين ثم الرصيف. وليس من قبيل الصدفة أن تكون التجارة المؤشر عليها من خلال المكان الذي تبوأ المنزلة الأخيرة في التدرج الوصفي (الرصيف) هي تجارة الخضر، والتي يعتبر العديد من ممارسيها في عداد جيوش البطالة المقنعة.. والتي تتساوق مع المهن المتاحة للجيل الثالث، ذلك أنها تنسجم مع التحقير الموحى به من قبل إدريس الذي اقترح ساخرا من المشاريع المتاحة أمام خريجي الجامعات « اسمعي أنا لدي مشروع أفضل من ذلك. عندما سأحرز على إجازة الاقتصاد في السنة القادمة، أنوي أن أنشئ مكتبا لتصدير الهندية، والزريعة المقلية، والخروب، وبو خنو» (ص: 124/125). من الواضح إذن، أن تجارة الرصيف هي المآل الذي ينتظر غالبية أبناء الجيل الثالث، فالانفتاح الذي على المستقبل أن يحمله للجيل الصاعد هو انفتاح على ما يسد الرمق وحسب. إنه انفتاح على البطالة المقنعة.. على تجارة الرصيف!!
وإذا كانت الدلالة الأيقونية للبدايات الثلاث والأمكنة الثلاثة خاضعة لنظام دقيق ومحسوب، فإن ذلك يعتبر دليلا قاطعا على أن وصف الأبواب، يخضع هو الآخر لنفس النظام:
بما أن أغلب البيوتات التقليدية لا تمتلك إلا بابين، فهل يتعلق الأمر – مع هذا البيت – باستثناء، أم هو محض إجراء نصي من أجل خلق رتبة أيقونية ملائمة لموضوع الرواية؟ إن الاعتقاد بوجود هذا الاستثناء يجب أن يؤكد من خلال كون الوصف المحدد لخصوصيات أبواب البيت الموصوف اعتباطيا. والواقع أن هذه الاعتباطية غير متوفرة كما سيثبت التحليل ذلك. ومن ثمة فإن وجود بيت فعلي بثلاثة أبواب أو بعدد مغاير ليس هاما. إن ما هو هام فعلا هو الوصف الذي خصت به ثم علاقة عددها بأعداد أخرى تحصي ظواهر أخرى يجلوها النص:
إن عدد الأبواب وهو يحول إلى دليل أيقوني، يقود إلى تملي الظواهر الكلية المشكلة للرواية. ويقودنا هذا التملي إلى اكتشاف كون الرواية قد انبنت على حبكة ترسم ملامح الحياة والقيم لثلاثة عقود وتوجه أشكال حياة ثلاثة أجيال، أما بالنسبة للعقود: فهي ما قبل السبعينيات والسبعينيات ثم الثمانينيات، وهي بالنسبة للأجيال، جيل ما قبل الاستقلال، وتمثله شخصيات: للا الغالية وسيد الطيب والسي ابراهيم واللا نجية ويشكلون الجيل الأول ثم الطايع والهادي وف/ب ويشكلون الجيل الثاني وأخيرا فتاح وبقية الشبان ويشكلون الجيل الثالث. ولكن ودفعا لكل اعتراض، فقبل تحديد العلاقة الأيقونية بين الأبواب والأجيال والشخصيات الممثلة للأجيال وبين الحقب المؤشر عليها من قبلهما، سيتم العمل على التحليل الموضعي للأبواب بغض النظر عن علاقتها بالأدلة النصية التي تؤشر عليها:
« وباب الدار الكبير…نصفه الأعلى قطعة واحدة مرصعة بمسامير غليظة، والنصف الأسفل الذي ينفتح، له خرصة كبيرة، ويمتد نصف متر إلى ما تحت مستوى الزقاق، وعلى الداخل أن يحني رأسه ويخطو خطوتين، ثم ينزل الدرج ويخطو قبل أن يواجهه الباب الثاني..».
إن الباب هو المدخل، ولأنه كذلك فإنه يؤشر على الدار التي هو بابها، ولأنه كذلك أيضا فإن قوته وصموده هو عنوان الدار. ولعل ذلك هو ما جعل العثمانيين يطلقون على ملوكهم لقب الباب، وهذه الدلالة الأيقونية تمنح الباب معنى الصورة العامة لتاريخ العشيرة والمرحلة وذلك قياسا إلى كون تاريخ الحاكم هو المعتمد عادة في تدوين تاريخ الجيل الذي عاصره.
وقد وصف الباب الأول وصفا ذا طابع جنسي وفكري فالنصف الأعلى قطعة واحدة، وذات مسامير غليظة. وذلك مؤشر كنائي على الرزانة والثبات وحسن السلوك والتشبث بمكارم الأخلاق من وجهة نظر الموسوعة المحاقبة.
وينضاف إلى سمة الكلية والوحدة وعدم التجزأ المؤشر عليه بالقطعة الواحدة، وجود المسامير الغليظة المؤيدة، وفق السياق، لتلك السمات. ذلك أنها تعد استعارة شعبية للثبات والرزانة والدليل على ذلك هو أننا نقول عن كل سلوك غير سوي بأن صاحبه لم تعد له براغي تشده. وذلك إما لغة أو بفضل الإشارة حيث نضع عادة السبابة فوق الصدغ ونقوم بعملية إدارة سريعة في الاتجاهين. وما يمكن استخلاصه من هذه السمات هو كونها أيقونات دالة على التماسك والقوة وعلى تحدي كل الهجمات الخارجية المحتملة. أما النصف الأسفل الذي ينفتح، وهي استعارة على العرض أو الجنس، فيغوص نصف متر إلى ما تحت مستوى الزقاق. إن هذا الغوص حتى في مستوى هندسة البيوتات وعقليات مهندسيها ليؤشر على قيمة اجتماعية واضحة تتصل بالاحتفاء الطبيعي بالانتماء إلى الأصول والتشبث بها.. وليست الخرصة التي هي أقرب إلى الأذن من أي شيء آخر، سوى دعم لهذا المعنى، ذلك أن الخرص الذي هو من جهة، الحرز دون تمثل إلا دلالة على تقديم القيمة السمعية على القيمة البصرية. فالفن يركز على العين بينما يركز الدين على الأذن وإذا كانت العين تأخذ الحيز الأكبر عند الفنان القديم (النحات) فإن الأذن هي التي احتلت هذا الحيز. ويعتبر ذلك مؤشرا على أهمية العلاقة الاجتماعية المرتبطة بالتزاور. إن الوضع الذي وصف به الباب يفرض أن هذا الأخير وهو ينفتح يشغل ما يناهز الخطوتين اللتين على الداخل أن ينزلهما مطأطأ الرأس. الشيء الذي يعني أن من يكون قد فتح الباب يكون منحدرا بنصف متر إضافة إلى قيمة هبوط الدرج بينما يكون من طرق الباب في موقع أعلى وإذن ما يستنتج هو استحالة الرؤية التلقائية ما لم تكن مبيتة أو متاحة.. ومن جهة ثانية تتأكد القيمة الأساسية المسندة إلى هذا الباب بفضل دلالة أيقونية ممكنة للخرصة، فالخرص باعتباره حرزا بدون تمثل يدعم ذلك، أولا لأن الصوت الذي يأتي من الخارج يماثل في تجربة الإدراك، الشيء المستحضر دون تمثل، بينما يتماثل التمثل مع الوجود الفعلي للشيء المرئي. ثم يتدعم ذلك أيضا بالدلالة العامية للمنطقة نفسها التي توحي الرواية بانتماء للا الغالية والسي الطيب إليها، وتعني من بين ما تعنيه التعقل والرزانة. ومن هنا تتضافر مع معنى المسامير ( البولونات)، لأنه يقال لمن أتى عملا شاذا من وجهة نظر العادة العامة (ما كيخرصشاي أو ما بقاش كيخرص).. إن السمات السابقة كلها تتضافر لتخلق نفس الأثر المتمحور حول الرزانة والثبات والتعقل.. ومن ثمة فقد حكمت على الوصف اللاحق عليها أن يكون خاضعا لها « وعلى الداخل أن يحني رأسه ويخطو خطوتين، ثم ينزل الدرج..». إن السمات السابقة إذن تتلاءم بل وتستدعي طأطأة الرأس وعدم النظر إلى الأعلى والهبوط والظلمة ..
وتعتبر هذه السمات في علاقتها بالأجيال مدخلا ملائما لتحليل خصوصيات مقومات الجيل الأول الممثل، كما سبق الذكر، بعدة شخصيات هي للا الغالية وللا نجية ثم سيد الطيب وسي إبراهيم، إن هذا الجيل كما تقدمه الرواية يتصف بالكفاح والتآزر والتحاب والتجاوز المقيد، فالطيب الذي حاول الكاتب أن يرصد من خلاله شخصية المغربي التقليدي الذي يعيش بمدينة عريقة، جعله هادئا وطيبا مع آل بيته وذويه وجيرانه، يبتعد بنزواته – إن وجدت – عن كل المحارم ونظائرها أو ما يمكن أن يحل محلها. وإذا كانت تلك النزوات قد ارتبطت بالنزهات الجماعية، فإن هذه الأخيرة كانت تتحقق في مكان مكشوف يقصده كل سكان المدينة، وكان موضوع الاستمتاع فيها يقتصر على الاستماع إلى قصص ألف ليلة وليلة.. أما علاقته باليهودية، فلم تكن إلا علاقة مخبوءة – توازي السر المعبر عنه في هذا الدهليز المظلم – والتي قد لا تكون فعلية، لأنها صادرة عن إضاءة مقدمة من قبل سارد غيري وصوت نسوي، يحتمل أن يكون كلامه عبارة عن تأويل متأثر بقيود العادة العامة لغياب الزوج عن البيت، ولتراجع تجارته وأرباحه، خاصة وأن هذا التأويل غير منسجم مع التأويل المقدم من قبل السارد الخارج حكائي: « عندما رحل الهادي إلى الرباط، حمل ولعه بالعراك والتحدي. كان أخوه قد سبقه إليها مع أمه، وهو لم يكن يريد أن يفارق فاس، وخاله الطيب الذي تعلق به كثيرا. غير أن ضيق ذات يد الخال نتيجة كساد منتوجات الدراز، واهتزاز مكانة الصناعة التقليدية بعد أن انتهت الحرب وعادت البضائع الاجنبية إلى اكتساح السوق جعلا للا الغالية تلح على استرجاع الهادي لكي تخفف العبء عن أخيها» (ص:41) أما سي ابراهيم فقد كان كل وقته مكرسا لعائلته وعبادته رغم أنه كان يعمل نادلا في حان، بينما كانت السيدتان متصفتين بالورع والتقوى وملتزمتين بما تمليه التقاليد. أما صورة الباب الثاني فترتبط بالمرحلة التي توجد بين بين، لأنه وسيط بين الدخول والخروج، ودلالة الوساطة تلك، يمكن استنباطها من الخرق الذي مورس من قبل المبئر على سنن التبئير المتحكم في الوصف كله، ذلك أن وصف الأبواب والممرات وقياس الخطوات، قد أظهرت كلها من قبل رؤية من يكون بصدد الدخول إلى الدار وليس من قبل من يكون بصدد الخروج. وذلك واضح من خلال الوصف المعكوس للدرج المرتبط بالباب الثاني« قبل أن يواجهه الباب الثاني، شبيه الأول غير أن خشبه أقل ثخونة ودرجه أقل علوا ثم يخطو ثلاث خطوات ليقطع السطوان».
إن دراسة أوجه العلاقة بين هذا الباب وبين البابين الآخرين، تثبت اقترابه من الأول أكثر من اقترابه من الثاني. وذلك واضح، ليس فقط من خلال المسافة المحددة بدقة، حيث تفصل الباب الثاني عن الأول خطوة واحدة فقط، بينما تفصله عن الثالث ثلاث خطوات، بل أيضا من خلال الانزلاق الطارئ على سنن توجيه التبئير، فوصف الدرج بكونه أقل علوا وليس أكثر هبوطا هو وصف مقصود، لأن الهبوط بوصفه موضوعا عاما يؤشر على المستويات الدنيا الاجتماعية والفكرية والطقوسية – وهي سمة لا تصدق على هذه الأجيال بل ليست مقصودة إطلاقا من قبل الرواية التي تستبعد كل رموز الهبوط عن شخصياتها – بينما يشكل العلو المسند إلى درج الباب الثاني، بالمقارنة مع البابين الآخرين، مؤشرا على الرفعة والسمو الاجتماعي.. وتحديدا على الرفعة التي مكمنها النفس وعزتها وكرامتها وأريحيتها ونضالها في سبيل الآخر. وهي السمات التي ستنمضي نحو الانحدار مع الجيل الثاني ونحو الانعدام مع الجيل الثالث (للا الغالية تضحي بكل متع الدنيا من أجل أبنائها ولم تجأر قط بالشكوى، وسيد الطيب كان يضع منزله وأجهزته وطعامه رهن إشارة الجيران.. للا نجية وإبراهيم الذين كانا يخدمان في نفس الوقت أبناءهما بإخلاص وللا الغالية وأبناءها.. ثم إن القلب المنفذ على توجه رؤية الذات، هو مؤشر شبه قاطع على التعاطف مع/ والالتفات نحو/ الباب الأول، وذلك ما يمكن أن يكون مدخلا للتدليل على ارتباط الباب الثاني بالجيل الثاني ومن خلاله ذلك دليلا على صوابية ربط هذه الأبواب بالأجيال المشكلة للشخصيات الأساسية للرواية:
أ – بما أن الباب قد وصف بكونه أقل ثخونة، وبما أن الفعل “ثخن” يعني كثف وغلظ وصلب، وبما أن أول موجود أسندت له سمة “الثخونة” في لسان العرب هو الإنسان ( رجل ثخين: حليم رزين ثقيل في مجلسه)، فإن الأمر يتعلق هنا باستعارة. ولعل هذا يجد ما يآزره– سياقيا – في الاستعارة السابقة التي كان موضوعها هو التعالق بين الإنسان والخشب الذي تلقى صفة إنسانية، و- مرجعيا – في عادة النقل الاستعاري المطردة بين الإنسان والخشب، ومن ذلك قولنا عن قوي البنية (عوده متين) ، واستعارتنا الخشبة للجسد بدون روح وحتى للجسد الخشن. وهكذا بناء على هذا الاستنتاج الذي يجعل الخشب دالا على الإنسان، يصبح الباب الثاني دالا على الجيل الثاني، وتصبح الأوصاف التي تلقاها دالة بالنسبة لهذا الجيل على الضحالة الفكرية وعلى عدم القوة وعلى نقصان السمو والرفعة قياسا إلى الجيل السابق عليه..
ب – وتترتب عن الملاحظة السابقة، ملاحظة أساسية تتمثل في كون كل الشخصيات المحددة من قبل الجيل الثاني، هي بدون ثبات فكري على مبدأ وحيد ومتماسك يمكن الإيمان به. فالمطلق الذي كان يعطي للجيل الأول تماسكه الروحي، بدا غائبا عن الجيل الثاني. ذلك أن الشخصيات كلها تعاني من خيبة الأمل في آمالها وأحلامها ومن توجس في المستقبل ومن عدم الرضا عن خطها السلوكي والتفكري.. فالهادي يلود في الأخير بذكرى أمه على اعتبار تلك الذكرى هي أهم شيء في حياته وعلى اعتبار أن تذكر الأم ومن خلالها الطفولة والأصل أكثر جدية من الإكثار من الخطابات والتساؤلات والقرارات الفارغة.. وقد تحقق ذلك بشكل إذا لم يكن عبثيا يؤشر على سخرية الهادي من السياسة والحزب التقدمي، فإنه يؤشر على خبل عقلي أي على نحالة في الفكر (في اللوحة الخشبية أو في خشب الباب).. ونفس الشيء يسجل مع الطايع الذي يعاود التفكير في قراراته بدءا من قرار زواجه المؤسس على قناعات فكرية تشكل جزئا من المطلق الذي كان مسيطرا في لحظات الاستقلال. وينتهي إلى نوع من الاختلاء بالذات المرضي الذي يقود المرء إلى إعفاء نفسه من كل مسؤولية. ويتضح ذلك أكثر في المحكي الخاص بالشابة المجهولة (ف/ ب) التي تبدو فاقدة لكل أمل في الحياة وفي كل أمل للتصالح مع العالم نتيجة انتهائها إلى حقيقة انفصام أفكارها مع أعمالها. فهي بذلك تشاطر الطايع في مآله فكلاهما اكتشف فضاعة مآل قناعاته التي ليست سوى قناعات جيل برمته، إن ما كان يتخايل لها باعتباره سلوكا مؤديا إلى التحرر والتقدم أضحى في النهاية قيدا نفسيا وعائقا، ولا بد أنه قد أضحى كذلك، لأن السلوك نفسه لم يكن في مستوى الدليل التفكري المجرد سوى جزء ضئيل من كل متلاحم ومبرر من قبل الفكر الوجودي والماركسي، الذي كان يتخايل باعتباره مخرجا للأمة من الضيق..
ج – إن سمة العلو – المشكلة لانزلاق في مسار اتجاه نظر المبئر – تؤشر مع ذلك على تفوق ورقي فكري ينعكس في شكل الحياة المادية والسلوكية والقيمية، وقد عزت الرواية هذا الرقي إلى التعليم، الذي أنتج وعيا متميزا لدى الجيل الثاني. وتمظهر هذا الوعي عمليا في الانشغال بهموم الوطن والمواطنين والعمل على تغيير ما يتبدى بوصفه سلبيا بما هو إيجابي. وقد أبرزت الرواية إخفاقات كل شخصيات الجيل الثاني. والمثير أن الرواية لم تجعل الفشل مقصورا على المستوى الفردي، بل جعلته مؤشرا على مستوى الفكر النظري نفسه الذي كان أداة للجيل، والذي أثبتت التجربة أنه بوصفه وسيلة إيديولوجية، لم يكن فقط تجريديا وغير ناجع، بل فاشلا حتى بوصفه أداة لتنظيم الحياة الخاصة ولإعطائها التوازن اللازم لكي يستطيع الفرد أن يحيى في وئام مع العالم.. فالواقع الروائي قد أثبت أن العلو الفكري أو الاجتماعي يتلازم مع التعاسة، ويخلخل علاقة الذوات مع الموروث الثقافي الذي يشكل أحد أهم عناصر الهوية. ذلك أن جري الذوات وراء التحرر – وإن كان يتبدى موضوعيا بالنظر إلى تزامنه مع الثورة الفكرية التي نتجت عن التعليم العلمي والتقني الوافدين على الثقافة المحلية المؤسسة على تعاليم الدين الإسلامي – لم يكن سوى نتيجة لتبعية مطلقة. ويعني ذلك أن اللفظة “علو” تصبح أيقونة على التعالي باعتباره موقفا مؤشرا على عدم القدرة على التصالح مع الواقع، وعلى نوع من أنواع الانفصام..
أما أهم السمات التي يمكن تسجيلها انطلاقا من الوصف الذي خص به الباب الثالث، فتتمثل في الصفات الذاتية وهي واحدة فقط (نحول)، وفي الصفات المحددة لكلمات غيرية، تتمثل في صفات الأمكنة التي ينفتح عليها هذا الباب، وهي السواري والخصة والماء “ثم يخطو ثلاث خطوات ليقطع السطوان الثاني قبل أن يرتاد الباب الثالث ذا الخشب النحيل، ويجتاز العتبة، لتطالعه السواري، وفناء الدار، والخصة التي ينفر منها الماء في دفقات متكسرة.”
لا بد في البداية من الإشارة إلى تركيز الكاتب على النقل الاستعاري بين الإنسان والخشب، فمن الملاحظ أنه قد حقق ذلك في إنتاجه للوصف الأساسي المحدد للباب الثالث: “ذا الخشب النحيل” . إنه من المؤكد أن إسناد سمة “النحول” إلى الباب، دون غيرها من السمات المناسبة لوصف حالة خشب الباب الرقيق، هو مؤشر على الوهن. لكن باعتبارها وصفا للباب، فإنها في علاقتها بالسمات الوصفية التي خص بها البابان السابقان (الثخونة)، تؤشر على الضحالة العقائدية والهشاشة التموقفية من الذات ومن العالم، كما سيتبين ذلك لاحقا.
وبتأجيل تحليل علاقة النحول بأوضاع شخصيات الجيل الثالث، من أجل الاهتمام بالكلمتين الأساسيتين المشكلتين للوصف، والمتمثلتين في السواري والخصة، نكتشف أنهما كلمتان غير موجودتين في اللغة العربية القديمة. وإذا كانت الأولى لم تحظ بوصف يحددها، فإن الثانية قد حددت من قبل جملة وصفية مميزة. وبالنظر إلى كونهما كلمتين مولدتين، فإنهما تسمحان بانوجاد مسافة بين معناهما الاشتقاقي وبين حالات الأشياء التي تعبران عنها.. فالسواري جمع سارية، والسارية في اللغة الشائعة عماد البناء، وسند قيامه. وهي مؤنثة صيغة لكنها مذكر شكلا وهيأة، لأنها أيقونة لعمود. وأما الخصة، فهي ذات علاقات أيقونية مع عدد من الكلمات المنحدرة من نفس الجذر، وأهمها الجذر نفسه “خصص”، وتعني التفاريج الضيقة. وتأتي بعدها الكلمة “خاص”، والتي تعني الإنفراد والتفرد والقلة، ثم تأتي في درجة أقل كلمة “خص” والتي تعني بيت القش الحافل بالخصاص. ومن الواضح أن واضعي هذه التسمية لحالة الأشياء المعاصرة المعبر عنها من قبلها “خصة”، والتي هي عبارة عن حلقة صغيرة يخرج منها الماء قد فكروا في نفس الوقت بالخصاص الذي هو ثقب بتأثير كون الخصة هي ثقف صغير يتوسط في الغالب شكلا هندسيا دائريا يتموقع وسط الدور الأصيلة، وفي تراكب محيطها المتمثل في ذلك الشكل الهندسي، مع الماء الذي ينفر منها فيأخذ وهو يتساقط صورة نصف دائرة مجسمة. وذلك ما يجعلها بشكل أو بآخر أيقونة للخص، وأيضا مع الخصوصية، التي تعني التفرد والانغلاق.. وهذا مساوق لوضع الخصة التي لاتسمى كذلك إلا إذا كانت خاصة بدار أو مسجد أو قصر..، أو مخصوصة، بمعنى أنها موقوفة على حاسة النظر دون غيرها من الحواس، أي أنها ذات بعد تزييني وحسب. أنا الوصف الذي خصت به ” ينفر منها الماء في دفقات متكسرة” فمن جهة يحدد هشاشتها وانكسارها وتفرقها الاختلافي.. ومن جهة أخرى يرسم صورة جنسية واضحة، تتمظهر من خلال علاقة الخصة التي هي الثقب الدقيق ابالوصف المسند إليها.. وقبل ربط الدلالة الأيقونية لهذه الأوصاف بالشخصيات، يمكن ربط الصورة العامة الجنسية الواضحة، بدءا من فناء الدار الذي هو مؤشر على الوسط، مرورا بالخصة، ووصولا إلى الماء المتنافر في دفقات متكسرة، بسيادة قيم الافتاح بين الجنسين وبظهور الإباحية في أبشع صورها ” لكن ألا تظن أن استحضار نشاط فتياتنا في الخليج وبعض دول أوربا (…) هل نسيت أن هذه الظاهرة ارتبطت بسلوك بعض فتيات جامعاتنا الموقرة اللائي بدأنها بالداخل قبل أن يتسربن إلى الخارج عبر شبكات تقول الشائعات أنها أخذت تشترط الحصول على الإجازة، إلى جانب إتقان الرقص وأساليب الفرفشة؟” (ص.133).
إن الأوصاف السابقة تنطبق جميعها على شخصيات الجيل الثالث التي، رغم كونها منبثقة من نفس الفضاء الاجتماعي ومتساوية من حيث التكوين المعرفي( طلبة جامعيون) ومتقاربة من حيث العمر، فإنها تختلف من حيث المرجعيات الفكرية والتصورات والأحاسيس والسلوكات، وهو ما يعني أنها مثل ماء الخصة الذي وإن كان يخرج من نفس المخرج، فإنه ينتشر متنافرا، ليرسم صورة الخص المؤشر على الهشاشة وسهولة الانكسار، شأن أغلب أفكار هذا الجيل :”وتبدو الغرفة الرابعة، حيث تجمع أولاد العائلة وبناتها وأصدقاؤهم،عالما مستقلا عن الغرف الأخرى. كل مجموعة في ركن، وكل ركن له حديث، والسجال حامي الوطيس. دخان السجائر يكاد يحجب الملامح، وحديث الجد مختلط بالمناوشات والمغازلات يتبادلها الصبيان والصبايا(…) وتعالت الأصوات مرة أخرى، وتشعب الحديث إلى المواقف والتفاصيل ولكن الهادي وقف بعد قليل معتذرا بأن عليه أن يعود إلى مجالسة المدعوين، ثم أضاف: ”لا أحد يستطيع أن ينير طريق الآخر، لكن ما آمله هو ألا تظلوا رصاصة سجينة داخل ماسورة البندقية. ليس هناك أفظع من الرصاص الصدئ. لكم أن تحللوا وترفضوا إلى أبعد حد، لكن احرصوا على أن تبلوروا لغة مقنعة تمد الجسور بينكم وبين من سيتيحون لرصاصاتكم أن تصيب هدفها..“(أنظر الصفحات من 124- 129)”. إن مختلف الحوارات التي دارت بين تلك الشخصيات تسعى في العمق إلى تجسيد الاختلافات المذهبية والإيديولوجية بل حتى الثقافية المتعايشة بين أفراد نفس العائلة. فعوض التماسك والاتزان الذين أمنتهما قيم شخصيات الجيل الأول ومرجعيتها الفكرية والعقائدية المشتركة، واللذين عبر عنهما أيقونيا من خلال السمات التي أسندها الكاتب إلى الباب الأول، والتي جسدت خاصة في الباب المثين والمقوى بالمسامير الغليظة، وبالخرصة المتينة والكبيرة أيضا..، نجد سمات شخصيات الجيل الثالث، مجسدة في تفكك التصورات وفي اختلال المواقف من العالم وتشخيصات الواقع وتحيين السلوكات، ويعود ذلك إلى تفكك القيم التي ما عادت متشاركة، وإلى تعدد المرجعيات التي أضحت متعددة. افالأفكار إذن، مثل ماء الخصة، متنافرة ومتكسرة. ومجابهة الواقع صعبة لأن ذلك الخليط من الأفكار لا يستطيع – إذا ما جمع – أن يصوغ إلا فكرة هشة، أشبه ما يكون بمسكن من الخص، أو بنحول خشب الباب. وبما أن لكل فرد من هؤلاء قناعاته الخاصة ومراجعه الخاصة التي “تخصه”، فإن طابع الخصوصية هو ما يميز الأفكار والتصرفات..
وهكذا يمكن القول إن تحليل الدلالات الأيقونية التي يعمد الروائيون عن وعي إلى تجسيدها، يستطيع أن يضيء الدلالة التي تضطلع الحكاية بتحقيقها. بل قد تستطيع أحيانا أن يعيد بناءها بفضل كشفه لمكونات دلالية أكثر جوهرية..
المراجع:
محمد برادة: لعبة النسيان، دار الأمان، الرباط. ط 1 (1987)
أحمد اليبوري، دينامية النص الروائي، منشورات إتحاد كتاب المغرب. الرباط 1993.
عبد اللطيف محفوظ، آليات إنتاج النص الروائي.. أطروحة لنيل دكتوراه الدولة. كلية الآداب الرباط 1999.
الدلالة الأيقونية للأبواب في رواية “لعبة النسيان”
إمدادات هذا الكاتب عبد اللطيف محفوظ 24 سبتمبر 2007
إذا كان الفضاء الروائي يعتبر مكونا دلاليا أساسيا، فليس لأنه يساهم في رسم الفضاء اللازم لتحقق الأحداث وتحرك الشخصيات وجريان الزمن وحسب، ولكن لأنه يشكل في بعض الروايات – التي يعي أصحابها أهمية الكلمات وما تختزنه من موضوعات إيحائية – آلية أساسية لإنتاج المعنى وتحقيقه. أما حين تكون هذه الكلمات إظهارات لموضوعات مرتبطة بأمكنة لها أبعاد تراثية وحضارية كونية أو قطرية أو حتى أفرادية، فإن الفضاء المتولد عنها قد يصبح مشكلا للعنصر المهيمن، الذي يجب أن تتأسس عليه القراءة..
ولما كان الإظهار الروائي لا يستطيع إلا اقتطاع شكله من المتبدي العام الذي يحايثه، فإن الفضاء العام الذي تتخذه كل رواية حيزا لأحداثها وتحركات شخصياتها، قد يكون مشاكلا أو مناظرا لفضاء معطى من قبل الموسوعة. إلا أن هذا التناظر لا يعني البتة التطابق، وذلك لأن الفضاء الروائي لا يتجسد إلا من خلال أدلة لغوية تتتابع داخل نسيج التوارد السردي، ويعني ذلك أن الأدلة توجد في حالة تركيب. والتركيب يمنح الأدلة إلى جانب محتوياتها المعيارية محتويات سياقية. وهذه المحتويات السياقية هي التي تمنع التطابق، وتعطي البعد المرجعي للفضاء بعدا نصيا..
وهكذا، وفق هذا الوعي بسيرورة الإنتاج والتلقي، تصير الأمكنة والأشياء – بفضل الوصف – أدلة منتجة لدلالات ترتبط بموضوعات سياقية. وطبيعي أنها لا تصير كذلك إلا بفضل علاقات المشابهة أو المجاورة بين الأمكنة والأشياء وبين الموضوعات السياقية. إلا أنه لن يتم الاهتمام في هذه الدراسة إلا بإظهار الجانب المتعلق بمدلول الأبواب بوصفها أيقونات لموضوعات سياقية. وذلك من خلال تحليل العلاقة الواضحة بين شكل بناء الوصف المقدم لها وبين الدلالة العامة التي تؤشر عليها الرواية:
تظهر الأبواب في مشروع بداية ثالثة. وتعتبر هذه البداية، البداية الفعلية للرواية، بينما تعتبر البدايتان السابقتان نوعا مخصوصا من الميتا حكي، الذي فيما ينقل تجربة بداية الإنجاز الإظهاري للرواية ولموضوعها الدينامي، يؤشر على إبعاد بعض الموضوعات الأخلاقية الجانبية عن الدلالة المركزية للرواية. فعملية نفي مشروع “بداية أول” الذي قدم الكاتب من خلاله مشهد موت الأم من خلال وعي الابن تتولى التقليل من أهمية الموت وإن كان موضوعه الوجودي هو الأم البيولوجية أو الرمزية حتى. أما عملية النفي الثانية فتنصب على بداية تركز على الأم في ذاتها بوصفها موجودا ذا علاقة بحياة الابن. وتؤشر هذه البداية على مقاطع شتى من الرواية تتحدث عن الأم، عن غيابها وحضورها. وهكذا يتضح أن إصرار الكاتب على وضع بدايتين ممكنتين، هو في الواقع تقليص لأهمية الخطابات التي سترتبط بها داخل الرواية، وحرص على حصر تلك الخطابات في حدود تشكيل عناصر مساعدة للدلالة العامة للرواية وحسب. وبذلك ينبهنا إلى ضرورة التخلي عن التقليد النقدي الذي يربط بين الأرض والأم، وذلك عن طريق التأكيد على أن الأم هي الأم البيولوجية فعلا، وحسب. وأن التفكير في علاقة الابن بها هي مقصودة في ذاتها لكي تؤدي وظيفة الاحتماء من الخيبة الحياتية..
إن تخلي الكاتب عن البدايتين الأوليين يعتبر تأشيرا هاما على أن الفضاء هو العنصر الهام والموصوف من قبل الرواية ويتمثل في المنزل، وذلك على اعتبار أنه يشكل الملاذ والملجأ والموطن، ويشهد على الزمن الذي يجري من خلاله وعبره، تاركا عليه بصماته المطبوعة في أركانه وطلاء جدرانه وشقوق سقوفه، ويضم القاطنين أجيالا تلو أجيال، ويشهد على ميلاد سكانه وموتهم..
تحضر الأبواب من خلال هذه البداية المحتفية قصدا بالمكان، وتتمظهر أهميتها انطلاقا من تصدرها لتلك البداية. ورغم هذا، فلكي يتأكد أن شكل حضورها وتصدرها للرواية يؤشر على دلالات مخصوصة، لا بد من استنتاجها، فإنه يتعين دفع الاعتراضات الممكنة التي من شأنها تفنيد ذلك. وخاصة الاعتراض الكامن في إمكانية القول إن الوصف المقدم للأبواب هنا، هو وصف مألوف وعادي ناتج عن ضرورة منطقية مفروضة من قبل الاعتيادية الوصفية للرواية الكلاسيكية، التي تصف الأمكنة انطلاقا من رؤية محايدة. ومن ثمة القول إن انطلاق من وصف المكان إلى وصف الأبواب إلى وصف الفناء ثم إلى وصف مكونات البيت الداخلية ليرسو الوصف عند الأم “للا الغالية” ليس سوى تحقيق لتلك الرؤية. إن هذا الاعتراض وإن عضدناه بحفيفة كون الدليل اللغوي المدمج في نص تخييلي ما، لا يتطابق، لن يصمد، لأن الدلالة الأيقونية لوصف الأبواب أكثر وضوحا من أي دلالة أخرى، ويتأكد هذا يدءا من بداية الوصف: “يكاد يكون زقاقا لولا أنه طريق سالكة.. يكاد يكون زقاقا لولا أنه طريق سالك تفضي بك إلى باب مولاي إدريس، والنجارين، والرصيف، والعطارين… وباب الدار الكبير لا يواجهك، تجده على يمينك إذا كنت نازلا من « ﮔرنيز»، أو على يسارك إذا أتيت من « سيدي موسى». نصفه الأعلى قطعة واحدة مرصعة بمسامير غليظة، والنصف الأسفل الذي ينفتح، له خرصة كبيرة ويمتد نصف متر إلى ما تحت مستوى الزقاق، وعلى الداخل أن يحني رأسه ويخطو خطوتين، ثم ينزل الدرج ويخطو قبل أن يواجهه الباب الثاني، شبيه الأول غير أن خشبه أقل ثخونة ودرجه أقل علوا، ثم يخطو ثلاث خطوات ليقطع السطوان الثاني قبل أن يرتاد الباب الثالث ذا الخشب النحيل، ويجتاز العتبة لتطالعه السواري، وفناء الدار، والخصة التي ينفر منها الماء في دفقات متكسرة..”
إن تملي التراتبية التدرجية للعناصر الموصوفة في علاقتها بالمراجع الفعلية، التي هي الأمكنة التي يمكن التعرف عليها ميدانيا، يفيد عدم التطابق بين الموصوفات وبين مراجعها الفعلية كما يفيد عدم تطابق الأمكنة التي يجعلها الوصف مؤدية إلى موقع المنزل، مع الأمكنة الفعلية المؤدية إلى موقعه. إن المقارنة بين الأدلة الوصفية والمراجع الفعلية يفيد، خاصة في مستوى التدرج، أن التراتبية لا تفيد التوارد التدرجي وتدريج العناصر وفق ما هي عليه في الواقع، بل تفيد فقط سمة المسلكية التي تعمل على نفي علاقة الضيق بعدم “التسليك”. ومن خلال تراكم الأدلة الدالة على المسالك، يتضح الاختزال والارتجالية المقصودين قياسا إلى الفضاءات المرجعية، حيث لا وجود لأي تناسب منطقي نابع من الطوبوغرافية المرجعية، يسمح بوضع ذلك التوارد، لأن باب مولاي إدريس والنجارين والعطارين أمكنة متجاورة، توجد الواحدة منها في حدود الأخرى، أما الرصيف فتفصله عن تلك الأمكنة عدة أحياء. ولذلك لم يكن من المنطقي أن يأخذ ذلك المكان المخلخل للتدرجية الفعلية للمسلكية، ذلك الوضع ما لم يكن مؤديا لدلالة نصية تنبني على التعارض الواضح بين المكانين المرجعيين: الواقعي والتخييلي. إن هذا التعارض الملموس يدعو إذن إلى البحث عن الدلالة النصية وذلك من خلال التوارد النصي وحده، وفي علاقته بالتواردات الموضوعاتية الداخلية المشكلة للحمة النص. إن المكان المدرج في البداية هو ضريح المولى إدريس. والضريح باعتباره يمثل صورة المقدس الدنبوي، هو في نفس الوقت مثوى رجل تقي ومسجد. ولذلك اعتبر من قبل المعرفة الشعبية السائدة خلال الزمن المؤشر عليه من قبل الرواية، ومن قبل شخصيات الجيل الأول، رمزا للمقدس الذي يجعل المسافة بين العابد والمعبود قريبة. وإذن فالمكان الذي تبوأ الرتبة الأولى، هو مكان العبادة والتطهر الروحي والحياة في فضاء مزدوج مؤلف من سمات الفضاء السماوي والأرضي. إنه فضاء آهل بأطياف الملكوت التي تحيط المكان وتنشر الأمان والطمأنينة النفسية التي تجعل الحجيج في رحاب الرحمن، ولكنه في نفس الوقت بفضل طابعه الأرضي يخفف من ثقل الحضور الروحي كما يخفف من الهالة القدسية ليمنح بذلك فسحة بينية تتيح للحجيج من النساء خاصة أن تؤطرن حياة الدنيا بحياة الروح وأن تتمتعن بفسحات الاستجمام البديلة عن الحدائق والمنتزهات الريفية في رحاب المكان البيني الذي يأخذ أحيانا معنى الحريم.. حيث يتحول بين العصر والمغرب إلى مكان للثرثرة والشكوى والتخفف من الهموم الذاتية عن طريق إطلاق العنان لآلام الآخرين.. بينما يرتع الأطفال، الذين تصطحبهم أمهاتهم لكي يشكلوا في الواقع درعا واقيا لهن من أي تحرش ذكوري أو من أي ريبة، في متعهم الخاصة حيث ينخرطون بتلقائية في اللعب مع أقرانهم شأنهم شأن النساء اللواتي يصرفنهم حتى يتحررن في الحديث التلقائي أحيانا والمبيت أحيانا أخرى.
إن السبق الذي يأحذه الضريح هو إذن سبق تحتمه التراتبية الوجودية للديني والدنيوي، مثلما تحتمه أيضا تراتبية مراحل عمر الشخصية المبأرة في الرواية (الهادي)، حيث حضور الضريح يتساوق مع مرحلة الطفولة أيام كانت للا الغالية تصطحبه معها .بينما يتلو المكان المقدس مكان يؤشر على عمل يدوي يحضر في شكل نشاط إنساني خلاق، يتصل بالصناعة التقليدية، ويمثل مهنة إحدى أهم شخصيات الرواية التي ستحظى بفصل كامل، ويتعلق الأمر بسيد الطيب الذي كان يمارس مهنة الحياكة ويدير الدراز. وإذن فالمكان الثاني يؤشر على العامل الثاني الفاعل في حياة الشخصيات الأكبر سنا (سيد الطيب وللا الغالية)، ليتظافر مع المكان الأول (الضريح/ المسجد) حيث تضافر صورتي العبادة والعمل. وبعد هذين الفضائين هناك فضاء التجارة الممثل بمكانين يمثلان أنواع المواد المختلفة وهما (العطارين والرصيف*) إن المقارنة بين تراتبية هذه الأمكنة في علاقتها بالأمكنة المرجعية يوحي بأنها تراتبية رمزية تتغيا جعل المتلقي يدرك أن الرتبة الواقعية التي عمل الكاتب على خرقها إنما تريد أن تقيم تراتبية معينة للقيم الملاصقة للممارسات الإنسانية والتي هي على التوالي (عالم العبادة وعالم الصناعة وعالم التجارة). وتعبر هذه التراتبية، عن التراتبية العملية والروحية لسيرورة أحداث الرواية. كما تعبر عن الأعمال التي انشغلت بها شخصياتها بالتدريج: فشخصيات الجيل الأول ارتبطت بفضاء العبادة والصناعة (مسجد المولى إدريس والدراز)، أما شخصيات الجبل الثاني ممثلة في الطايع والسي إبراهيم، فامتهنت الحرف اليدوية، بينما ارتبط عالم المهن الحرة بشخصبات الجيل الثالث. إن الدلالة الأيقونية للتوارد التدرجي للأمكنة ليدعم قبل الدلالة الأيقونية للأبواب الثلاثة، الدلالة الأبقونية لتراتبية المهن. ذلك أن المضي من فضاء العبادة إلى فضاء الصناعة التقليدية إلى عالم التجارة بكل أنواعه، يتساوق مع تطور مهن الأجيال الثلاثة التي يرصدها السارد الرئيسي (الهادي). غير أن التأمل العميق في العلاقة الأيقونية الرابطة بين الأمكنة والمهن وشكل تواردهما المنسجم، يفيد نوعا من الهبوط في المستوى، فالصناعة ليست هي العمل اليدوي، وهذا الأخير ليس هو التجارة. ومن الواضح أن التراتبية تجسد أيقونيا التراتبية التي تفرزها التصورات الشعبية، التي تمجد الصناعة وتعتبرها أسمى من غيرها (إذا لم تغن، فإنها تستر)، وبعدها يأتي العمل اليدوي الذي يجعل المرأ عزيزا لأنه (يأكل من أجر عرق جبينه)، بينما ينظر في الغالب إلى التجارة نظرة مزدوجة، فهي من جهة تشكل إكسيرا للطفرات الكبرى في حياة الأفراد، ومن جهة ثانية تخشى من قبل العديدين نظرا لاقترانها بالربا وأنواع التدليس.. (سعيد وعزيزة) وبالخسارة أيضا، ولذلك فإنها غير مأمونة، هذا إضافة إلى كون أنواع عديدة منها ليست إلا بديلا للبطالة. ولعل الأستاذ محمد برادة قد جسد هذه الازدواجية في ذكر العطارين ثم الرصيف. وليس من قبيل الصدفة أن تكون التجارة المؤشر عليها من خلال المكان الذي تبوأ المنزلة الأخيرة في التدرج الوصفي (الرصيف) هي تجارة الخضر، والتي يعتبر العديد من ممارسيها في عداد جيوش البطالة المقنعة.. والتي تتساوق مع المهن المتاحة للجيل الثالث، ذلك أنها تنسجم مع التحقير الموحى به من قبل إدريس الذي اقترح ساخرا من المشاريع المتاحة أمام خريجي الجامعات « اسمعي أنا لدي مشروع أفضل من ذلك. عندما سأحرز على إجازة الاقتصاد في السنة القادمة، أنوي أن أنشئ مكتبا لتصدير الهندية، والزريعة المقلية، والخروب، وبو خنو» (ص: 124/125). من الواضح إذن، أن تجارة الرصيف هي المآل الذي ينتظر غالبية أبناء الجيل الثالث، فالانفتاح الذي على المستقبل أن يحمله للجيل الصاعد هو انفتاح على ما يسد الرمق وحسب. إنه انفتاح على البطالة المقنعة.. على تجارة الرصيف!!
وإذا كانت الدلالة الأيقونية للبدايات الثلاث والأمكنة الثلاثة خاضعة لنظام دقيق ومحسوب، فإن ذلك يعتبر دليلا قاطعا على أن وصف الأبواب، يخضع هو الآخر لنفس النظام:
بما أن أغلب البيوتات التقليدية لا تمتلك إلا بابين، فهل يتعلق الأمر – مع هذا البيت – باستثناء، أم هو محض إجراء نصي من أجل خلق رتبة أيقونية ملائمة لموضوع الرواية؟ إن الاعتقاد بوجود هذا الاستثناء يجب أن يؤكد من خلال كون الوصف المحدد لخصوصيات أبواب البيت الموصوف اعتباطيا. والواقع أن هذه الاعتباطية غير متوفرة كما سيثبت التحليل ذلك. ومن ثمة فإن وجود بيت فعلي بثلاثة أبواب أو بعدد مغاير ليس هاما. إن ما هو هام فعلا هو الوصف الذي خصت به ثم علاقة عددها بأعداد أخرى تحصي ظواهر أخرى يجلوها النص:
إن عدد الأبواب وهو يحول إلى دليل أيقوني، يقود إلى تملي الظواهر الكلية المشكلة للرواية. ويقودنا هذا التملي إلى اكتشاف كون الرواية قد انبنت على حبكة ترسم ملامح الحياة والقيم لثلاثة عقود وتوجه أشكال حياة ثلاثة أجيال، أما بالنسبة للعقود: فهي ما قبل السبعينيات والسبعينيات ثم الثمانينيات، وهي بالنسبة للأجيال، جيل ما قبل الاستقلال، وتمثله شخصيات: للا الغالية وسيد الطيب والسي ابراهيم واللا نجية ويشكلون الجيل الأول ثم الطايع والهادي وف/ب ويشكلون الجيل الثاني وأخيرا فتاح وبقية الشبان ويشكلون الجيل الثالث. ولكن ودفعا لكل اعتراض، فقبل تحديد العلاقة الأيقونية بين الأبواب والأجيال والشخصيات الممثلة للأجيال وبين الحقب المؤشر عليها من قبلهما، سيتم العمل على التحليل الموضعي للأبواب بغض النظر عن علاقتها بالأدلة النصية التي تؤشر عليها:
« وباب الدار الكبير…نصفه الأعلى قطعة واحدة مرصعة بمسامير غليظة، والنصف الأسفل الذي ينفتح، له خرصة كبيرة، ويمتد نصف متر إلى ما تحت مستوى الزقاق، وعلى الداخل أن يحني رأسه ويخطو خطوتين، ثم ينزل الدرج ويخطو قبل أن يواجهه الباب الثاني..».
إن الباب هو المدخل، ولأنه كذلك فإنه يؤشر على الدار التي هو بابها، ولأنه كذلك أيضا فإن قوته وصموده هو عنوان الدار. ولعل ذلك هو ما جعل العثمانيين يطلقون على ملوكهم لقب الباب، وهذه الدلالة الأيقونية تمنح الباب معنى الصورة العامة لتاريخ العشيرة والمرحلة وذلك قياسا إلى كون تاريخ الحاكم هو المعتمد عادة في تدوين تاريخ الجيل الذي عاصره.
وقد وصف الباب الأول وصفا ذا طابع جنسي وفكري فالنصف الأعلى قطعة واحدة، وذات مسامير غليظة. وذلك مؤشر كنائي على الرزانة والثبات وحسن السلوك والتشبث بمكارم الأخلاق من وجهة نظر الموسوعة المحاقبة.
وينضاف إلى سمة الكلية والوحدة وعدم التجزأ المؤشر عليه بالقطعة الواحدة، وجود المسامير الغليظة المؤيدة، وفق السياق، لتلك السمات. ذلك أنها تعد استعارة شعبية للثبات والرزانة والدليل على ذلك هو أننا نقول عن كل سلوك غير سوي بأن صاحبه لم تعد له براغي تشده. وذلك إما لغة أو بفضل الإشارة حيث نضع عادة السبابة فوق الصدغ ونقوم بعملية إدارة سريعة في الاتجاهين. وما يمكن استخلاصه من هذه السمات هو كونها أيقونات دالة على التماسك والقوة وعلى تحدي كل الهجمات الخارجية المحتملة. أما النصف الأسفل الذي ينفتح، وهي استعارة على العرض أو الجنس، فيغوص نصف متر إلى ما تحت مستوى الزقاق. إن هذا الغوص حتى في مستوى هندسة البيوتات وعقليات مهندسيها ليؤشر على قيمة اجتماعية واضحة تتصل بالاحتفاء الطبيعي بالانتماء إلى الأصول والتشبث بها.. وليست الخرصة التي هي أقرب إلى الأذن من أي شيء آخر، سوى دعم لهذا المعنى، ذلك أن الخرص الذي هو من جهة، الحرز دون تمثل إلا دلالة على تقديم القيمة السمعية على القيمة البصرية. فالفن يركز على العين بينما يركز الدين على الأذن وإذا كانت العين تأخذ الحيز الأكبر عند الفنان القديم (النحات) فإن الأذن هي التي احتلت هذا الحيز. ويعتبر ذلك مؤشرا على أهمية العلاقة الاجتماعية المرتبطة بالتزاور. إن الوضع الذي وصف به الباب يفرض أن هذا الأخير وهو ينفتح يشغل ما يناهز الخطوتين اللتين على الداخل أن ينزلهما مطأطأ الرأس. الشيء الذي يعني أن من يكون قد فتح الباب يكون منحدرا بنصف متر إضافة إلى قيمة هبوط الدرج بينما يكون من طرق الباب في موقع أعلى وإذن ما يستنتج هو استحالة الرؤية التلقائية ما لم تكن مبيتة أو متاحة.. ومن جهة ثانية تتأكد القيمة الأساسية المسندة إلى هذا الباب بفضل دلالة أيقونية ممكنة للخرصة، فالخرص باعتباره حرزا بدون تمثل يدعم ذلك، أولا لأن الصوت الذي يأتي من الخارج يماثل في تجربة الإدراك، الشيء المستحضر دون تمثل، بينما يتماثل التمثل مع الوجود الفعلي للشيء المرئي. ثم يتدعم ذلك أيضا بالدلالة العامية للمنطقة نفسها التي توحي الرواية بانتماء للا الغالية والسي الطيب إليها، وتعني من بين ما تعنيه التعقل والرزانة. ومن هنا تتضافر مع معنى المسامير ( البولونات)، لأنه يقال لمن أتى عملا شاذا من وجهة نظر العادة العامة (ما كيخرصشاي أو ما بقاش كيخرص).. إن السمات السابقة كلها تتضافر لتخلق نفس الأثر المتمحور حول الرزانة والثبات والتعقل.. ومن ثمة فقد حكمت على الوصف اللاحق عليها أن يكون خاضعا لها « وعلى الداخل أن يحني رأسه ويخطو خطوتين، ثم ينزل الدرج..». إن السمات السابقة إذن تتلاءم بل وتستدعي طأطأة الرأس وعدم النظر إلى الأعلى والهبوط والظلمة ..
وتعتبر هذه السمات في علاقتها بالأجيال مدخلا ملائما لتحليل خصوصيات مقومات الجيل الأول الممثل، كما سبق الذكر، بعدة شخصيات هي للا الغالية وللا نجية ثم سيد الطيب وسي إبراهيم، إن هذا الجيل كما تقدمه الرواية يتصف بالكفاح والتآزر والتحاب والتجاوز المقيد، فالطيب الذي حاول الكاتب أن يرصد من خلاله شخصية المغربي التقليدي الذي يعيش بمدينة عريقة، جعله هادئا وطيبا مع آل بيته وذويه وجيرانه، يبتعد بنزواته – إن وجدت – عن كل المحارم ونظائرها أو ما يمكن أن يحل محلها. وإذا كانت تلك النزوات قد ارتبطت بالنزهات الجماعية، فإن هذه الأخيرة كانت تتحقق في مكان مكشوف يقصده كل سكان المدينة، وكان موضوع الاستمتاع فيها يقتصر على الاستماع إلى قصص ألف ليلة وليلة.. أما علاقته باليهودية، فلم تكن إلا علاقة مخبوءة – توازي السر المعبر عنه في هذا الدهليز المظلم – والتي قد لا تكون فعلية، لأنها صادرة عن إضاءة مقدمة من قبل سارد غيري وصوت نسوي، يحتمل أن يكون كلامه عبارة عن تأويل متأثر بقيود العادة العامة لغياب الزوج عن البيت، ولتراجع تجارته وأرباحه، خاصة وأن هذا التأويل غير منسجم مع التأويل المقدم من قبل السارد الخارج حكائي: « عندما رحل الهادي إلى الرباط، حمل ولعه بالعراك والتحدي. كان أخوه قد سبقه إليها مع أمه، وهو لم يكن يريد أن يفارق فاس، وخاله الطيب الذي تعلق به كثيرا. غير أن ضيق ذات يد الخال نتيجة كساد منتوجات الدراز، واهتزاز مكانة الصناعة التقليدية بعد أن انتهت الحرب وعادت البضائع الاجنبية إلى اكتساح السوق جعلا للا الغالية تلح على استرجاع الهادي لكي تخفف العبء عن أخيها» (ص:41) أما سي ابراهيم فقد كان كل وقته مكرسا لعائلته وعبادته رغم أنه كان يعمل نادلا في حان، بينما كانت السيدتان متصفتين بالورع والتقوى وملتزمتين بما تمليه التقاليد. أما صورة الباب الثاني فترتبط بالمرحلة التي توجد بين بين، لأنه وسيط بين الدخول والخروج، ودلالة الوساطة تلك، يمكن استنباطها من الخرق الذي مورس من قبل المبئر على سنن التبئير المتحكم في الوصف كله، ذلك أن وصف الأبواب والممرات وقياس الخطوات، قد أظهرت كلها من قبل رؤية من يكون بصدد الدخول إلى الدار وليس من قبل من يكون بصدد الخروج. وذلك واضح من خلال الوصف المعكوس للدرج المرتبط بالباب الثاني« قبل أن يواجهه الباب الثاني، شبيه الأول غير أن خشبه أقل ثخونة ودرجه أقل علوا ثم يخطو ثلاث خطوات ليقطع السطوان».
إن دراسة أوجه العلاقة بين هذا الباب وبين البابين الآخرين، تثبت اقترابه من الأول أكثر من اقترابه من الثاني. وذلك واضح، ليس فقط من خلال المسافة المحددة بدقة، حيث تفصل الباب الثاني عن الأول خطوة واحدة فقط، بينما تفصله عن الثالث ثلاث خطوات، بل أيضا من خلال الانزلاق الطارئ على سنن توجيه التبئير، فوصف الدرج بكونه أقل علوا وليس أكثر هبوطا هو وصف مقصود، لأن الهبوط بوصفه موضوعا عاما يؤشر على المستويات الدنيا الاجتماعية والفكرية والطقوسية – وهي سمة لا تصدق على هذه الأجيال بل ليست مقصودة إطلاقا من قبل الرواية التي تستبعد كل رموز الهبوط عن شخصياتها – بينما يشكل العلو المسند إلى درج الباب الثاني، بالمقارنة مع البابين الآخرين، مؤشرا على الرفعة والسمو الاجتماعي.. وتحديدا على الرفعة التي مكمنها النفس وعزتها وكرامتها وأريحيتها ونضالها في سبيل الآخر. وهي السمات التي ستنمضي نحو الانحدار مع الجيل الثاني ونحو الانعدام مع الجيل الثالث (للا الغالية تضحي بكل متع الدنيا من أجل أبنائها ولم تجأر قط بالشكوى، وسيد الطيب كان يضع منزله وأجهزته وطعامه رهن إشارة الجيران.. للا نجية وإبراهيم الذين كانا يخدمان في نفس الوقت أبناءهما بإخلاص وللا الغالية وأبناءها.. ثم إن القلب المنفذ على توجه رؤية الذات، هو مؤشر شبه قاطع على التعاطف مع/ والالتفات نحو/ الباب الأول، وذلك ما يمكن أن يكون مدخلا للتدليل على ارتباط الباب الثاني بالجيل الثاني ومن خلاله ذلك دليلا على صوابية ربط هذه الأبواب بالأجيال المشكلة للشخصيات الأساسية للرواية:
أ – بما أن الباب قد وصف بكونه أقل ثخونة، وبما أن الفعل “ثخن” يعني كثف وغلظ وصلب، وبما أن أول موجود أسندت له سمة “الثخونة” في لسان العرب هو الإنسان ( رجل ثخين: حليم رزين ثقيل في مجلسه)، فإن الأمر يتعلق هنا باستعارة. ولعل هذا يجد ما يآزره– سياقيا – في الاستعارة السابقة التي كان موضوعها هو التعالق بين الإنسان والخشب الذي تلقى صفة إنسانية، و- مرجعيا – في عادة النقل الاستعاري المطردة بين الإنسان والخشب، ومن ذلك قولنا عن قوي البنية (عوده متين) ، واستعارتنا الخشبة للجسد بدون روح وحتى للجسد الخشن. وهكذا بناء على هذا الاستنتاج الذي يجعل الخشب دالا على الإنسان، يصبح الباب الثاني دالا على الجيل الثاني، وتصبح الأوصاف التي تلقاها دالة بالنسبة لهذا الجيل على الضحالة الفكرية وعلى عدم القوة وعلى نقصان السمو والرفعة قياسا إلى الجيل السابق عليه..
ب – وتترتب عن الملاحظة السابقة، ملاحظة أساسية تتمثل في كون كل الشخصيات المحددة من قبل الجيل الثاني، هي بدون ثبات فكري على مبدأ وحيد ومتماسك يمكن الإيمان به. فالمطلق الذي كان يعطي للجيل الأول تماسكه الروحي، بدا غائبا عن الجيل الثاني. ذلك أن الشخصيات كلها تعاني من خيبة الأمل في آمالها وأحلامها ومن توجس في المستقبل ومن عدم الرضا عن خطها السلوكي والتفكري.. فالهادي يلود في الأخير بذكرى أمه على اعتبار تلك الذكرى هي أهم شيء في حياته وعلى اعتبار أن تذكر الأم ومن خلالها الطفولة والأصل أكثر جدية من الإكثار من الخطابات والتساؤلات والقرارات الفارغة.. وقد تحقق ذلك بشكل إذا لم يكن عبثيا يؤشر على سخرية الهادي من السياسة والحزب التقدمي، فإنه يؤشر على خبل عقلي أي على نحالة في الفكر (في اللوحة الخشبية أو في خشب الباب).. ونفس الشيء يسجل مع الطايع الذي يعاود التفكير في قراراته بدءا من قرار زواجه المؤسس على قناعات فكرية تشكل جزئا من المطلق الذي كان مسيطرا في لحظات الاستقلال. وينتهي إلى نوع من الاختلاء بالذات المرضي الذي يقود المرء إلى إعفاء نفسه من كل مسؤولية. ويتضح ذلك أكثر في المحكي الخاص بالشابة المجهولة (ف/ ب) التي تبدو فاقدة لكل أمل في الحياة وفي كل أمل للتصالح مع العالم نتيجة انتهائها إلى حقيقة انفصام أفكارها مع أعمالها. فهي بذلك تشاطر الطايع في مآله فكلاهما اكتشف فضاعة مآل قناعاته التي ليست سوى قناعات جيل برمته، إن ما كان يتخايل لها باعتباره سلوكا مؤديا إلى التحرر والتقدم أضحى في النهاية قيدا نفسيا وعائقا، ولا بد أنه قد أضحى كذلك، لأن السلوك نفسه لم يكن في مستوى الدليل التفكري المجرد سوى جزء ضئيل من كل متلاحم ومبرر من قبل الفكر الوجودي والماركسي، الذي كان يتخايل باعتباره مخرجا للأمة من الضيق..
ج – إن سمة العلو – المشكلة لانزلاق في مسار اتجاه نظر المبئر – تؤشر مع ذلك على تفوق ورقي فكري ينعكس في شكل الحياة المادية والسلوكية والقيمية، وقد عزت الرواية هذا الرقي إلى التعليم، الذي أنتج وعيا متميزا لدى الجيل الثاني. وتمظهر هذا الوعي عمليا في الانشغال بهموم الوطن والمواطنين والعمل على تغيير ما يتبدى بوصفه سلبيا بما هو إيجابي. وقد أبرزت الرواية إخفاقات كل شخصيات الجيل الثاني. والمثير أن الرواية لم تجعل الفشل مقصورا على المستوى الفردي، بل جعلته مؤشرا على مستوى الفكر النظري نفسه الذي كان أداة للجيل، والذي أثبتت التجربة أنه بوصفه وسيلة إيديولوجية، لم يكن فقط تجريديا وغير ناجع، بل فاشلا حتى بوصفه أداة لتنظيم الحياة الخاصة ولإعطائها التوازن اللازم لكي يستطيع الفرد أن يحيى في وئام مع العالم.. فالواقع الروائي قد أثبت أن العلو الفكري أو الاجتماعي يتلازم مع التعاسة، ويخلخل علاقة الذوات مع الموروث الثقافي الذي يشكل أحد أهم عناصر الهوية. ذلك أن جري الذوات وراء التحرر – وإن كان يتبدى موضوعيا بالنظر إلى تزامنه مع الثورة الفكرية التي نتجت عن التعليم العلمي والتقني الوافدين على الثقافة المحلية المؤسسة على تعاليم الدين الإسلامي – لم يكن سوى نتيجة لتبعية مطلقة. ويعني ذلك أن اللفظة “علو” تصبح أيقونة على التعالي باعتباره موقفا مؤشرا على عدم القدرة على التصالح مع الواقع، وعلى نوع من أنواع الانفصام..
أما أهم السمات التي يمكن تسجيلها انطلاقا من الوصف الذي خص به الباب الثالث، فتتمثل في الصفات الذاتية وهي واحدة فقط (نحول)، وفي الصفات المحددة لكلمات غيرية، تتمثل في صفات الأمكنة التي ينفتح عليها هذا الباب، وهي السواري والخصة والماء “ثم يخطو ثلاث خطوات ليقطع السطوان الثاني قبل أن يرتاد الباب الثالث ذا الخشب النحيل، ويجتاز العتبة، لتطالعه السواري، وفناء الدار، والخصة التي ينفر منها الماء في دفقات متكسرة.”
لا بد في البداية من الإشارة إلى تركيز الكاتب على النقل الاستعاري بين الإنسان والخشب، فمن الملاحظ أنه قد حقق ذلك في إنتاجه للوصف الأساسي المحدد للباب الثالث: “ذا الخشب النحيل” . إنه من المؤكد أن إسناد سمة “النحول” إلى الباب، دون غيرها من السمات المناسبة لوصف حالة خشب الباب الرقيق، هو مؤشر على الوهن. لكن باعتبارها وصفا للباب، فإنها في علاقتها بالسمات الوصفية التي خص بها البابان السابقان (الثخونة)، تؤشر على الضحالة العقائدية والهشاشة التموقفية من الذات ومن العالم، كما سيتبين ذلك لاحقا.
وبتأجيل تحليل علاقة النحول بأوضاع شخصيات الجيل الثالث، من أجل الاهتمام بالكلمتين الأساسيتين المشكلتين للوصف، والمتمثلتين في السواري والخصة، نكتشف أنهما كلمتان غير موجودتين في اللغة العربية القديمة. وإذا كانت الأولى لم تحظ بوصف يحددها، فإن الثانية قد حددت من قبل جملة وصفية مميزة. وبالنظر إلى كونهما كلمتين مولدتين، فإنهما تسمحان بانوجاد مسافة بين معناهما الاشتقاقي وبين حالات الأشياء التي تعبران عنها.. فالسواري جمع سارية، والسارية في اللغة الشائعة عماد البناء، وسند قيامه. وهي مؤنثة صيغة لكنها مذكر شكلا وهيأة، لأنها أيقونة لعمود. وأما الخصة، فهي ذات علاقات أيقونية مع عدد من الكلمات المنحدرة من نفس الجذر، وأهمها الجذر نفسه “خصص”، وتعني التفاريج الضيقة. وتأتي بعدها الكلمة “خاص”، والتي تعني الإنفراد والتفرد والقلة، ثم تأتي في درجة أقل كلمة “خص” والتي تعني بيت القش الحافل بالخصاص. ومن الواضح أن واضعي هذه التسمية لحالة الأشياء المعاصرة المعبر عنها من قبلها “خصة”، والتي هي عبارة عن حلقة صغيرة يخرج منها الماء قد فكروا في نفس الوقت بالخصاص الذي هو ثقب بتأثير كون الخصة هي ثقف صغير يتوسط في الغالب شكلا هندسيا دائريا يتموقع وسط الدور الأصيلة، وفي تراكب محيطها المتمثل في ذلك الشكل الهندسي، مع الماء الذي ينفر منها فيأخذ وهو يتساقط صورة نصف دائرة مجسمة. وذلك ما يجعلها بشكل أو بآخر أيقونة للخص، وأيضا مع الخصوصية، التي تعني التفرد والانغلاق.. وهذا مساوق لوضع الخصة التي لاتسمى كذلك إلا إذا كانت خاصة بدار أو مسجد أو قصر..، أو مخصوصة، بمعنى أنها موقوفة على حاسة النظر دون غيرها من الحواس، أي أنها ذات بعد تزييني وحسب. أنا الوصف الذي خصت به ” ينفر منها الماء في دفقات متكسرة” فمن جهة يحدد هشاشتها وانكسارها وتفرقها الاختلافي.. ومن جهة أخرى يرسم صورة جنسية واضحة، تتمظهر من خلال علاقة الخصة التي هي الثقب الدقيق ابالوصف المسند إليها.. وقبل ربط الدلالة الأيقونية لهذه الأوصاف بالشخصيات، يمكن ربط الصورة العامة الجنسية الواضحة، بدءا من فناء الدار الذي هو مؤشر على الوسط، مرورا بالخصة، ووصولا إلى الماء المتنافر في دفقات متكسرة، بسيادة قيم الافتاح بين الجنسين وبظهور الإباحية في أبشع صورها ” لكن ألا تظن أن استحضار نشاط فتياتنا في الخليج وبعض دول أوربا (…) هل نسيت أن هذه الظاهرة ارتبطت بسلوك بعض فتيات جامعاتنا الموقرة اللائي بدأنها بالداخل قبل أن يتسربن إلى الخارج عبر شبكات تقول الشائعات أنها أخذت تشترط الحصول على الإجازة، إلى جانب إتقان الرقص وأساليب الفرفشة؟” (ص.133).
إن الأوصاف السابقة تنطبق جميعها على شخصيات الجيل الثالث التي، رغم كونها منبثقة من نفس الفضاء الاجتماعي ومتساوية من حيث التكوين المعرفي( طلبة جامعيون) ومتقاربة من حيث العمر، فإنها تختلف من حيث المرجعيات الفكرية والتصورات والأحاسيس والسلوكات، وهو ما يعني أنها مثل ماء الخصة الذي وإن كان يخرج من نفس المخرج، فإنه ينتشر متنافرا، ليرسم صورة الخص المؤشر على الهشاشة وسهولة الانكسار، شأن أغلب أفكار هذا الجيل :”وتبدو الغرفة الرابعة، حيث تجمع أولاد العائلة وبناتها وأصدقاؤهم،عالما مستقلا عن الغرف الأخرى. كل مجموعة في ركن، وكل ركن له حديث، والسجال حامي الوطيس. دخان السجائر يكاد يحجب الملامح، وحديث الجد مختلط بالمناوشات والمغازلات يتبادلها الصبيان والصبايا(…) وتعالت الأصوات مرة أخرى، وتشعب الحديث إلى المواقف والتفاصيل ولكن الهادي وقف بعد قليل معتذرا بأن عليه أن يعود إلى مجالسة المدعوين، ثم أضاف: ”لا أحد يستطيع أن ينير طريق الآخر، لكن ما آمله هو ألا تظلوا رصاصة سجينة داخل ماسورة البندقية. ليس هناك أفظع من الرصاص الصدئ. لكم أن تحللوا وترفضوا إلى أبعد حد، لكن احرصوا على أن تبلوروا لغة مقنعة تمد الجسور بينكم وبين من سيتيحون لرصاصاتكم أن تصيب هدفها..“(أنظر الصفحات من 124- 129)”. إن مختلف الحوارات التي دارت بين تلك الشخصيات تسعى في العمق إلى تجسيد الاختلافات المذهبية والإيديولوجية بل حتى الثقافية المتعايشة بين أفراد نفس العائلة. فعوض التماسك والاتزان الذين أمنتهما قيم شخصيات الجيل الأول ومرجعيتها الفكرية والعقائدية المشتركة، واللذين عبر عنهما أيقونيا من خلال السمات التي أسندها الكاتب إلى الباب الأول، والتي جسدت خاصة في الباب المثين والمقوى بالمسامير الغليظة، وبالخرصة المتينة والكبيرة أيضا..، نجد سمات شخصيات الجيل الثالث، مجسدة في تفكك التصورات وفي اختلال المواقف من العالم وتشخيصات الواقع وتحيين السلوكات، ويعود ذلك إلى تفكك القيم التي ما عادت متشاركة، وإلى تعدد المرجعيات التي أضحت متعددة. افالأفكار إذن، مثل ماء الخصة، متنافرة ومتكسرة. ومجابهة الواقع صعبة لأن ذلك الخليط من الأفكار لا يستطيع – إذا ما جمع – أن يصوغ إلا فكرة هشة، أشبه ما يكون بمسكن من الخص، أو بنحول خشب الباب. وبما أن لكل فرد من هؤلاء قناعاته الخاصة ومراجعه الخاصة التي “تخصه”، فإن طابع الخصوصية هو ما يميز الأفكار والتصرفات..
وهكذا يمكن القول إن تحليل الدلالات الأيقونية التي يعمد الروائيون عن وعي إلى تجسيدها، يستطيع أن يضيء الدلالة التي تضطلع الحكاية بتحقيقها. بل قد تستطيع أحيانا أن يعيد بناءها بفضل كشفه لمكونات دلالية أكثر جوهرية..
المراجع:
محمد برادة: لعبة النسيان، دار الأمان، الرباط. ط 1 (1987)
أحمد اليبوري، دينامية النص الروائي، منشورات إتحاد كتاب المغرب. الرباط 1993.
عبد اللطيف محفوظ، آليات إنتاج النص الروائي.. أطروحة لنيل دكتوراه الدولة. كلية الآداب الرباط 1999.